قال الله تعالى:(وَنَفسٍ وَما سَوَاها فَأَلهَمَها فُجورَها وَتَقواها) فتسويتها بورود الروح الإنساني عليها، واقتطاعها من جنس أرواح الحيوانات وتكونت النفس بتكوين الله من الروح العلوي وصار تكون النفس التي هي الروح الحيواني من الآدمي من الروح العلوي في عالم الأمر، كتكوين جواء من آدم في عالم الخلق إذ صار بينهما من التألف والتعاشق كما بين آدم وحواء، وصار كل واحد منهما يذوق الموت بمفارقة صاحبه. قال الله تعالى:(وَجعَلَ مِنها زَوجَها لِيَسكُنَ إِليها) فسكن آدم إلى حواء وسكن الروح الحيواني الإنساني العلوي إلى الروح الحيواني وصيره نفسا وتكون من سكون الروح إلى النفس القلب وأعني بهذا القلب، اللطيفة التي محلها المضغة اللحمية من عالم الخلق، وهذه اللطيفة من عالم الأمر وكان تكون القلب من الروح والنفس في عالم الأمر، كتكون الذرية من أدم وحواء في عالم الخلق، ولولا المساكنة بين الزوجين اللذين أحدهما النفس ما تكون القلب، فمن القلوب قلب متطلع إلى الأب الذي هو الروح العلوي ميال إليه وهو القلب المؤيد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن،، وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر، وقلب مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه مثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها القيح الصديد، فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها، والقلب المنكوس ميال إلى الأم التي هي النفس الأمارة بالسوء، ومن القلوب، قلب متردد من ميله إليهما ويحسب ماجا القلب يكون حكمه من السعادة أو الشقاوة، والعقل جوهر الروح العلوي ولسانه والدال عليه وتدبيره للقلب المؤيد والنفس المطمئنة، تدبير الوالد للولد البار، والزوجة الصالحة، وتدبيره للقلب المنكوس تدربير الوالد للولد العاق، والزوجة السيئة الخلق، فالروح العلوي يهم بالارتقاء إلى مولاه شوقا وحلوا وتنزها عن الأكوان التي منها القلب والنفس. فإذا التقى الروح يحنو القلب إليه حنو الولد الحسن البار إلى الوالد، وتحنو النفس إلى القلب الذي هو الولد حنو الوالدة الحنية إلى ولدها، وإذا حنت النفس ارتقت من الأرض وانزوت عروقها الضاربة في العالم السفلي وانطوى هواها وانحسمت مادته، وزهدت في الدنيا، وتجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود، وقد تخلد النفس التي هي الأم إلى الأرض بوضعها الجبلي لكونها من الروح الحيواني المحبس ومستندها في كونها إلى الطبايع التي هي أركان العالم السفلي.
قال تعالى:(ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) فإذا سكنت النفس التي هي الأم إلى الأرض انجذب إليها القلب المنكوس انجذاب الولد الميال إلى الوالدة المعوج الناقصة، وينجذب الروح إلى الولد الذي هو القلب بما حمل عليه انجذاب الوالد إلى والده، فعند ذلك يتخلف عن حقيقة القيام بحق مولاه وفي هذين الانجذابين تظهر حكم السعادة والشقاوة، ذلك تقدير العزيز العليم، كلامه قدس روحه.
وقد وصف الله عزوجل النفس في كتابه العزيز بثلاثة أوصاف: الأمارة وهي التي تميل إلى الطبيعة البدنية تأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية فهي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة. واللوامة: وهي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت به من سنة الغفلة كل ما صدرت منها سنة بحكم جبلتها الطمأنينة أخذت تلوم نفسها وتنوب عنها. والمطمئنة: وهي التي يمر تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة.
[الفصل الثالث]
[في بقائها بعد الموت وتجردها مستقلة]
[وما في ذلك من الخلاف]
زعمت طائفة أن لا وجود للنفس بعد الموت، ولا للبدن، وهؤلاء هم الملحدة وليس لهم على ما يدعون برهان متبع، ولا قول مستمع، غلا ما نقلوه عن ابن عباس أنه سئل فقيل له: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال: أين يذهب ضوء المصباح عند فني الأدهان؟ قيل له: فأين تذهب الجسوم إذا بليت؟ قال: أين يذهب لحمها إذا مرضت؟ وفي إقامة البراهين القاطعة على صحة ما ذهب إليه طوائف المسلمين بيان لفساد دعواه؟ وذهب الجمهور إلى أنها باقية وأن موتها عبارة عن انتقالها من الجسد إلى عالم الملكوت.