وهذا مثل يضرب للرجل يأتي الأمر ينسبه إلى غيره ويتهم هو به. وغوير: تصغر غار، وأول من ضرب هذا المثل الزباء الرومية لماّ جاء قصير ليأخذ بثأر عمرو وكان له حصن منيع فأدخل الرجال في الصناديق وأتى حصنها، وكان لها سرب فأقعد عليه الرجال، فلماّ أحسّت بالبلاء همتّ بالخروج من السرب فتبينت الرجال عليه فقالت: عمن الغوير أبؤسا، أي قد ذهبت من قبل الغار ثم صار مثلا يضرب لكل متهم بأمر. وفي الحديث: أن رجلا وجد ملفوطا فأقي به عمر فقال له عمر: " عسى الغوير أبؤساء " اتهاما له به فأثنى عليه عريف خيرا فقال: ربة ذلك ولا مرة. فإن قدمت إن فقلت: عسى إن يقول زيد، فموضع إن رفع التقدير: قَربَ قيام زيد. وقال الله:(عسى أن يبعثك ربك) .
هذا حكم عسى، وتقول في سائر أخواتها: جعل زيد يقول كذا وكذا. وكاد زيد يخرج، ولا تقول: جعل زيد إن يقول، ولا كاد إن يخرج إلاّ في ضرورة شعر.
ومن أمثال العرب: كاد النعام يطير،، وكاد العروس يكون أميرا، لقربهما من تلك الحال، قال الله تعالى:(يكاد لسنا برقه يذهب بالأبصار) .
والعلة في استعمال عسى بأن وأخواتها بغير إن جعل كاد وأخذ وما أشبه ذلك لمقارنة الفعل والإشراف على وقوعه وكونه، ألا ترى إنك لا تقول: كدت ادخل المدينة إلاّ وأنت مشرف عليها، ولا تقول: جعل زيد يقول كذا وكذا إلا لحكاية حاله في القول فهذا لا يحتاج إلى إن لوقوعها على الحال.. وأمّا عسى فهي كما ذكرت لك تطلب الفعل مستقبلا ومنتظرا فهي لمقاربة اسمه لا ذاته ألا ترى إنك تقول: عمى إن أحجّ، وأنت ما برحت من موضعك بعد، وهذا بين واضح. ثم قد يجيء في الشعر ضرورة عسى بغير إن، وكاد وأخواتها بأن، مقال هدبة بن الخشوم في عسى بغير إن: الوافر
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
وقال رؤبة في كاد: الرجز
قد كان من طول البلا إن يمصحا
والأصل ما ذكرت لك.
[مسألة في الأسماء لم لم تجزم والأفعال لم لم تخفض]
إذا سأل سائل ففال: لم لم تجزم الأسماء؟ ففي ذلك أجوبة، منها ما اعتمد عليه سيبويه ومن تابعه بعده قال: لا تجزم الأسماء لتمكنها ولحاق التنوين بها فلم يكن ليجمعوا عليها ذهابه وذهاب الحركة. وتلخيص ذلك: إن البصريين والكوفيين قد أجمعوا على إن التنوين لازم للأسماء دون الأفعال والحروف، فلو جزم مثل جعفر لوجب إسكان الراء للجزم وبعدها التنوين على الأصل المتفق عليه بينهم فكان يجتمع ساكنان وهما التنوين والراء، وكان لا بد من تحريك أحدهما أو حذفه، وعلى أوضاع كلام العرب إذا اجتمع ساكنان والأول منهما حرف صحيح ليس بحرف مدّ ولا لين وجب تحريك الأول منهما كما تقول: اضرب زيدا، ثم تقول: اضرب الغلام، فتحرك الباء لالتقاء الساكنين.
وان كان الأول منهما حرفا من حروف المدّ واللين وهي الياء والواو والألف حذف الأول حذفا كقولك: زيد يغزو القوم، وعمرو يقضي اليوم، وزيد يخشى الناس كما قال الله تعالى (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) وكقوله تعالى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) تسقط هذه الحروف من اللفظ وان ثبتت في الخط إلا إن يلتقي ساكنان صحيحان في المدغم فتحرك الثاني منهما نحو قولك في الأمر: مدّ وشدّ لأنه لا سبيل إلى تحريك الأول لأنه إذا تحرك الأول وسكن الثاني ظهر التضعيف كقولك: مددت وشددته وما أشبهه ذلك. فلو حركت الراء من جعفر على هذا القياس بطل الجزم من الكلام لأنك كنت كلما تجزم اسما صحت فتسكن آخره فتحركه لالتقاء الساكنين ولو حذفت الراء لالتقاء الساكنين بطل الاسم لأنه يكمل معناه بتمامه، ولو حذفت التنوين لالتقاء الساكنين فقد حذفت الحركة رجعت إلى قول سيبويه من حذف حركة وتنوين وكنت تجحف بالاسم لذهاب شيئين، ومع ذلك فإن في الأسماء ما يكون قبل آخره ساكن مثل بكر وزيد، فلو جزم مثل هذا على هذا التقدير الذي ذكره كانت تجتمع فيه ثلاثة أحرف سواكن، واجتماع مثلها محال فهذا مذهب سيبويه، وقد بان منه أن دخول الجزم على الأسماء غير سائغ لفظا.