للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

جبل جزاه الله عَنَّا أفضل مَا جزى بِهِ أحدا من الْقُضَاة فَهُوَ الْعَفِيف النَّظِيف الناصح الحبيب الْمَأْمُون الْعَيْب وَكَانَ القَاضِي يحيى بن أَكْثَم يعرف قَاضِي جبل وَهُوَ الَّذِي ولاه وَأَشَارَ بِهِ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن هَذَا الَّذِي يُنَادي ويثني على القَاضِي هُوَ القَاضِي نَفسه فاستضحك الْمَأْمُون واستظرفه وَأقرهُ على الْقَضَاء وَقد كَانَ أهل جبل وَقَعُوا عَلَيْهِ وَذكروا أَنه سَفِيه حَدِيد يعَض رُؤُوس الْخُصُوم

(سيندم قوم حاربوني وَإِنَّهُم ... ستطرقهم من جَانِبي أم قسطل)

أم قسطل الداهية

(وَإِن لساني مبضع أَي مبضع ... وَفِي كل عُضْو مِنْهُم عرق أكحل)

(وَأقسم لَوْلَا خشيَة الله والحيا ... نسخت بِهِ ذكرى جرير وجرول)

(بأسهم لفظ كالصواعق أرْسلت ... وأنصل معنى كالقضاء الْمنزل)

(وقافية تزداد حسنا وَجدّة ... وَتبقى بَقَاء الْوَحْي فِي صم جندل)

(قلائد مَا مرت بفكر مرقش ... وَلَا خطرت يَوْمًا ببال المهلهل)

(فَكُن حذرا فالحزم ينفع أَهله ... وَإِن كنت مِمَّن يجهل الْأَمر فاسأل)

وَقد أطلنا تَرْجَمته حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَحَاصِله أَنه كَانَ فريد زَمَانه ووحيد أَوَانه وَمَا أَدْرِي بِأَيّ عبارَة أصف محاسنه وأذكر صنائعه وَكَانَ قبل مَوته بأيام نَهَضَ حَظه نهضة عَجِيبَة وَذَلِكَ لإقبال الْوَزير الْأَعْظَم مصطفى باشا الْمَقْتُول عَلَيْهِ وأدرّ عَلَيْهِ إدرارات كَثِيرَة وشفع لَهُ عِنْد الْمُفْتِي فولاه إِحْدَى الْمدَارِس الثمان ثمَّ بعد أشهر ولاه مدرسة زَالَ باشا الَّتِي بِأَيُّوب وَفَرح فَرحا شَدِيدا وَاتفقَ لي أَنِّي كنت عِنْده فَجَاءَهُ للتهنئة الْمولى رفقي الْمدرس بمدرسة إِبْرَاهِيم باشا بِمَدِينَة الغلطة فهناه ثمَّ ذكر لَهُ أَن هَذِه الْمدرسَة مَشْهُورَة بِالْيمن وَمن جملَة يمنها أَنه لم يَقع لأحد من مدرسيها أَنه مَاتَ وَهِي عَلَيْهَا فعجبت من هَذَا وَوَقع فِي وهمي أَن يكون مبدأ لمَوْت بعض مدرسيها وانفصل الْمجْلس ثمَّ فِي ثَانِي يَوْم رَأَيْت قرطاساً فِي وسط دواته فتأملت فِيهَا فرأيته قد شرع فِي عمل قصيدة وَكتب قوافيها وَلم يكْتب مِنْهَا إِلَّا المطلع وَهُوَ هَذَا

(ألم تَرَ أَن الْهم قد زَالَ بزالا ... وَأحسن آمالنا وَلنَا ومآلا)

فاستحكمت الطَّيرَة فِي وهمي من لَفْظَة زَالَ وفارقته عَشِيَّة النَّهَار وَهُوَ فِي لب الصِّحَّة فَفِي الصَّباح جَاءَنِي خَادِم لَهُ يدعوني إِلَيْهِ وَذكر لي الْخَادِم بِأَنَّهُ طعن بِاللَّيْلِ فأسرعت إِلَيْهِ فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ رَأَيْته قد انْعَقَد لِسَانه وأشرف على الْمَوْت وَبَقِي

<<  <  ج: ص:  >  >>