وقد ملت في أكثره إلى أشعار المحدثين من أهل العصر إلاّ ما قل من أشعار القدماء وما لم أر للمعاصرين فيه شيئاً، فالضرورة تدعوني إلى استعمال أشعار المتقدمين فيه ورغبني في أشعار المتأخرين قرب متناول معانيهم وسلامة ألفاظهم وتناسبها وحسن مذهبهم في تلطيف الألفاظ والمعاني ورشاقة السبك وإصابة الغرض وتجنب حواشي اللغة ووحشيها ليكون ذلك أدعى إلى الرغبة فيه وأنسب إلى ما اقتضته الحال التي جمع لها، وأليق بطباع أهل العصر ولأن الجيد من أشعار الجاهلية ومخضرمي الإسلام ومخضرمي الدولتين والمحدثين لا يخلو منها كتاب أو مجموع وأن المصنفين لم يغادروا منها صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصوها وقد كان، جمل الله ببقائه وجمع القلوب، وقد فعل، على ولائه، طلب أن أضيف إلى هذا المجموع شيئاً من الدوبيت والمواليا والموشحات فأجبته إجابة مطيع، وسارعت إلى امتثال أمره مسارعة سميع وتبعت غرضه في الاختيار وملت معه في الإيراد والإصدار، وبالله أعتمد وأعتضد، وعليه أتوكل، وهو حسبي ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
[وصف في الشباب والخضاب والمشيب]
الشباب باكورة الحياة وإبان صفو العيش ووقت التمكن من الأغراض وزمن الطرب والغزل وفيه استقامة القوى الطبيعية وجريها على أحسن حالة وأتم انتظام والتصرف في ملاذ النفس واقتضاء الجوارح للحركات والنشاط على التمام وفيه تقوى خيالات الهوى وتنبسط الروح وتنبعث الهمم والمزاج الطبيعي فيه الحر واليبس.
وقد اختلف الأطباء في حرارة الصبيان والشباب وأيهما أشد، واستدل كل قوم على نصر مذهبهم بأمور قد بسطوا القول فيها لا يتعلق غرضنا بذكرها. وجالينوس يقول: إنها متساوية في الفريقين وإنما هي متعلقة في الشباب بموضوع يابس وفي الصبيان بموضوع رطب، قال: ولو فرضنا ناراً متساوية أوقدت على حجر وماء زماناً واحداً وجدنا في الحجر ممانعة لا نجد مثلها في الماء ليبس موضوعها.
وقد ذكر الشعراء الشباب وطولوا في أوصافه ونعتوه فأحسنوا نعته وبكوا عليه فأكثروا البكاء إلاّ أنهم قل أن يذكروه إلاّ عند فقده أو يبكوا عليه إلاّ بعد فراقه ووقت التظلم من الشيب، والأصل في جميع ذلك حب الحياة والرغبة في السلامة وقد ذُم الشباب أيضاً وذكرت معايبه وهذا عائد إلى العياء.
وها أنا أذكر ما يخطر من ذلك وبالله التوفيق.
أنشد المبرد قال: أنشدنا أبو عثمان المازني لأبي حية النميري:
زمان الصبا ليتَ أيامنا ... رجعنَ لنا الصالحاتِ القصارا
زمانٌ عليَّ غرابٌ غدافٌ ... فطيّرهُ الدهرُ عني فطارا
فلا يُبعد اللهُ ذاك الغرابَ ... وإن هو لم يبقَ إلاّ ادِّكارا
كأنَّ الشابَ ولذاتهِ ... وريقَ الصبا كانَ ثوباً مُعارا
ريق الصبا وريّقه ورونقه أوّله.
وهازئةٍ إذْ رأت لمّتي ... تلفعَ شيبٌ بها فاستدارا
وقلدني منه بعد الخطام ... عذاراً فما أسطيعُ عنه اعتذارا
أجارتنا إنَّ ريبَ الزما ... ن قبليَ غالَ الرجالَ الخيارا
فأما تريْ لمَّتي هكذا ... فأسرعتِ منها لشيبي النفارا
فقد أرتدي طلةً وحفةً ... وقد أُبرزُ الفتياتِ الخفارا
الطلة: اللذيذة، وشعرٌ وحفٌ: أي كثير حسن أسود، ووحفٌ، بالتحريك، والخفر شدة الحياء، وامرأة خفرة، ويقال: خفِرة بالكسر، يقول: ارتديت شيبةً طلةً، أي لذيذة. قوله: وكان عليَّ غراب غداف: أراد به الشباب ويشبه أن يكون مثل قول الأعشى:
وما طلابكَ شيئاً لستَ مدركهُ ... إنْ كانَ عنكَ غرابُ الجهل قد وقعا
ومنه أخذ القائل، أظن الأبيات للإمام الشافعي:
أيا بومةً قد عشعشتْ فوقَ هامتي ... على الرغمِ مني حينَ طارَ غرابُها
علمتِ خرابَ العمرِ مني فزرتني ... ومأواك من كلِّ الديارِ خرابُها
ومنه أخذ الفلنك الموصلي، من شعراء العصر، كان وتوفي، وكان لا يعرف الكتابة والأدب، وله مع هذا أشعار رائقة:
سهرت لياليه وفيها مسامري ... أغنّ من الأتراك نامتْ وشاتهُ
فآهاً على مخضلّ عيش به انقضى ... وما طيَّرتْ غربانَ فودي بزاتُهُ
وقال أبو حية النميري:
لعمرُ أبي الشبابُ لقد تولَّى ... حميداً لا يرادُ به بديلُ
إذِ الأيامُ مقبلةٌ علينا ... وظلُ أراكةِ الدنيا ظليلُ