للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ابن أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، وكان واعيةً، عن بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَرَامَتِهِ، وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أبعدَ حَتَّى تحسَّرَ عَنْهُ البيوتُ، ويُفضى إلَى شِعاب مَكَّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرُّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ، إلَّا قَالَ: السلامُ عَلَيْكَ يَا رسولَ اللَّهِ١. قَالَ: فيلتفتُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حولَه، وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَخَلْفِهِ، فَلَا يَرَى إلَّا الشجرَ وَالْحِجَارَةَ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ، مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يمكثَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ٢ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ الله، وهو بحراء في شهر رمضان.


١ وفي مصنف الترمذي ومسلم أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عَليَّ قبل أن ينَزَّل عَلَيَّ" وفي بعض المسندات زيادة أن هذا الحجر الذي كان يسلم عليه هو الحجر الأسود، وهذا التسليم: الأظهر فيه أن يكون حقيقة، وأن يكون الله أنطقه إنطاقًا كما خلق الحنين في الجذع، ولكن ليس من شروط الكلام الذي هو صوت وحرف: الحياة والعلم والإرادة؛ لأنه صوت كسائر الأصوات، والصوت: عَرَض في قول الأكثرين، ولم يخالف فيه إلا النَّظَّام، فإنه زعم أنه جسم، وجعله الأشعري اصطكاكًا في الجواهر بعضها لبعض، وقال أبو بكر بن الطيب: ليس الصوت نفس الاصطكاك، ولكنه معنى زائد عليه، ولو قدرت الكلام صفة قائمة بنفس الحجر والشجر، والصوت عبارة عنه، لم يكن بد من اشتراط الحياة والعلم مع الكلام، والله أعلم أي ذلك كان، أكان كلامًا مقرونًا بحياة وعلم، فيكون الحجر به مؤمنًا، أو كان صوتًا مجردًا غير مقترن بحياة؟ وفي كلا الوجهين، هو علم من أعلام النبوة. وأما حنين الجذع فقد سمى حنينًا، وحقيقة الحنين يقتضي شرط الحياة، وقد يحتمل تسليم الحجارة أن يكون مضافًا في الحقيقة إلى ملائكة يسكنون تلك الأماكن، ويعمرونها، فيكون مجازًا من قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:٨٢] أي أهلها والأول أظهر، وإن كانت كل صورة من هذه الصور التي ذكرناها فيها عَلَمٌ على نبوته -عليه السلام- غير أنه لا يسمى معجزة في اصطلاح المتكلمين إلا ما تحدى به الخلق، فيعجزون عن معارضته. "الروض الأنف، ج١ ص٢٦٦-٢٦٧".
٢ اسم جبريل سرياني، ومعناه: عبد الرحمن، أو عبد العزيز. هكذا جاء عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا أيضًا، والوقف أصله، وأكثر الناس على أن آخر الاسم منه هو اسم الله وهو: إيل، وكان مذهب طائفة من أهل العلم في أن هذه الأسماء إضافتها مقلوبة وكذلك الإضافة في كلام العجم، يقولون في غلام زيد: زيد غلام، فعلى هذا يكون إيل عبارة عن العبد، ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى، ألا ترى كيف قال جبريل وميكائيل، كما تقول: عبد الله وعبد الرحمن، ألا ترى أن لفظ عبد يتكرر بلفظ واحد، والأسماء ألفاظها مختلفة.
واتفق في اسم جبريل عليه السلام أنه موافق من جهة العربية لمعناه، وإن كان أعجميًا؛ فإن الجبر هو إصلاح ما وَهَى وجبريل موكل بالوحي، وفي الوحي إصلاح ما فسد، وجبر ما وَهَى من الدين.

<<  <  ج: ص:  >  >>