للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين، يعرفها من رآها من حيث رآها لأنها لا مثل لها في الدنيا، ومن جبالها جبل يعرف بإرم عظيم العلو، تزعم أهل البادية أن فيه كروماً وصنوبراً - فوجد بني فزارة بها شاتين، فنزل بقوم من عدي فزارة، فيهم أولاد لاحق بن مخلب، وكان مخلب هذا خرج يطلب ناقة له فقدها، وكانت بنو فزارة قد أخذت غزياً غزتها فكانت الأسرى في القد بين البيوت، فسمعه بعض الأسرى ينشد الناقة فقال له: هي بموضع كذا وكذا وجدناها أمس وشربنا لبنها وتركناها لنعود فنأخذها. فقال مخلب: على شهادتكم يا معشر العرب، ثم عاد فلبس سلاحه وركب فرسه فقال: الغزي ضيوفي فخلصهم من القد بعد اختلاف الناس وخوف الشر، فرد عليهم كل شيء أخذ لهم وقراهم وسيرهم وميرهم فقال مخلب:

فإن تك ناقتي منعت غزيّا ... تجرّ صرارها ترعى الرّحابا

فأيّ فتى أحقّ بذاك منّي ... وأجدر في العشيرة أن يهابا؟

وكانت بينه أي بين أبي الطيب وبين أمير فزارة: حسان بن حكمة مودة وصداقة. فنزل بجار للقوم ليواري عنهم، فلا يعلم ما بينه وبينهم، واسم الجار: وردان بن ربيعة من طيئ، ثم من معن ثم من بني شبيب، فاستغوى عبيده وأفسدهم عليه، وأجلسهم مع امرأته، فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله.

وطابت حسمي لأبي الطيب فأقام بها شهراً، وكتب كافور إلى من حوله من العرب ووعدهم، وظهر لأبي الطيب فساد عبيده، وكان الطائي يرى عند أبي الطيب سيفاً مستوراً فيسأله أن يريه إياه فلا يفعل؛ لأنه كان على قائمه وفعله ذهب من مائة مثقال، وكان السيف لا ثمن له، فجعل الطائي يحتال على العبيد بامراته طمعا في السيف؛ لأن بعضهم أعطاه خبره، فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد ووقف على مكاتبة كافور لكل العرب التي حوله في أمره، أنفذ رسولاً إلى فتىً من بني فزارة، ثم من بني مازن من ولد هرم بن قطبة. بن سيار يقال له: فليتة بن محمد وفيهم يقول بعض البادية:

إذا ما كنت مغترباً فجاور ... بني هرم بن قطبة أو دثارا

إذا جاورت أدنى مازنيٍّ ... فقد ألزمت أقصاها الجوارا

وكان وافقه قبل ذلك على المراسلة فسار إليه. وترك أبو الطيب عبيده نياماً وتقدم إلى الجمال فشد على الإبل وحمل خوفاً أن يحتبس عنه عبيده في الليل، ولم يعلموا حتى نبهم وطرحهم على الإبل وجنب الخيل، وسار تحت الليل والقوم لا يعلمون برحيله، ولا يشكون أنه يريد البياض، فلما صار برأس الصوان أنفذ فليتة بن محمد إلى عرب بين يديه وتوقف.

وأخذ أحد العبيد في الليل السيف فدفعه إلى عبد آخر ودفع إليه فرسه، وجاء ليأخذ فرس مولاه فانتبه أبو الطيب فقال الغلام: أخذ العبد فرسي أخذ العبد فرسي يغالط بهذا الكلام، وعدا نحو الفرس ليقعد على ظهره، والتقى هو وأبو الطيب عند الحصان، وسل العبد السيف فضرب رسنه، فضرب أبو الطيب وجه العبد فقسمه، فخر على رتمة أنفه، وأمر الغلمان فقطعوه، وانتظر الصباح وكان هذا العبد أشد من معه وأفرسهم.

فلما أصبح أتبع العبد علياً الخفاجي وعلواناً المازني، فأخذا أثره، فأدركاه عصراً، وقد قصر الفرس الذي تحته، فسألهما عن مولاه فقالا جاءك من ثم، وأشارا إلى موضع، فدنا منهما كالعائذ وهو يتبصر فقالا له: تقدم، فقال: ما أراه، فإن رأيته جئتكما وإن لم أره فما لكما عندي إلا السيف، فامتنع عنهما وعادا في غد، ووافقا عودة فليتة فقال فليتة: لقد كان فيما جرى خبرة، لأن الوقت الذي اشتغلتم بقتله فيه كانت سرب الخيل عابرة مع ذلك العلم، ولو كنتم زلتم عن موضعكم لحدث بعضكم بعضا، فقال أبو الطيب ارتجالا:

فإن تك طيئٌ كانت لئاما ... فألأمها ربيعة أو بنوه

يقول: إن كانت طيئ لئاماً فربيعة الذي هو أبو وردان وبنوه أكثرهم لؤما. وقوله: أوبنوه معناه: وبنوه أو في معنى الواو.

وإن تك طيّئٌ كانت كراما ... فوردانٌ لغيرهم أبوه

يقول: إن كانت طيّئ كراما، فأبو وردان ليس منهم، بل من غيرهم، لأنه لئيم وطيئ كرام. وكانت في البيتين زائدة، والتقدير: إن تك طيئ كراما، وإن تك طيئ لئاما.

مررنا منه في حسمي بعبدٍ ... يمجّ اللّوم منخره وفوه

حسمي: أرض بالسماوة. ويقال: منخر: بفتح الميم وكسرها.

يقول: نزلنا عليه بحسمي، فوجدناه عبداً لئيماً يمج اللؤم أنفه وفوه.

<<  <   >  >>