الخلفاء الراشدين أحد ينكر القدر، فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقى من الصحابة، كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وواثِلَة بن الأسْقَع، وكان أكثره بالبصرة والشام، وقليل منه بالحجاز، فأكثر كلام السلف في ذم هؤلاء القدرية؛ ولهذا قال وَكِيع بن الجرَّاح: القدرية يقولون: الأمر مستقبل، وأن الله لم يقدر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: القول يجزئ من العمل، والجهمية يقولون: المعرفة تجزئ من القول والعمل. قال وكيع: وهو كله كفر ورواه ابن. . .
ولكن لما اشتهر الكلام في القدر، ودخل فيه كثير من أهل النظر والعباد، صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق. وعن عمرو بن عبيد في إنكار الكتاب المتقدم روايتان. وقول أولئك كفرهم عليه مالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم. وأما هؤلاء فهم مبتدعون ضالون، لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك، وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد كتب عنهم العلم. وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم، لكن من كان داعية إليه لم يخرجوا له. وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره: أن من كان داعية إلى بدعة فإنه يستحق العقوبة لدفع ضرره عن الناس، وإن كان في الباطن مجتهدًا، وأقل عقوبته أن يهجر، فلا يكون له مرتبة في الدين لا يؤخذ عنه العلم ولا يستقضى، ولا تقبل شهادته، ونحو ذلك. ومذهب مالك قريب من هذا؛ ولهذا لم يخرج أهل الصحيح لمن كان داعية، ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى في الباطن رأى القدرية، والمرجئة والخوارج، والشيعة.
وقال أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة، وهذا لأن مسألة خلق أفعال العباد، وإرادة الكائنات مسألة مشكلة. وكما أن القدرية من المعتزلة وغيرهم أخطؤوا فيها، فقد أخطأ فيها كثير ممن رد عليهم أو أكثرهم، فإنهم سلكوا في الرد عليهم مسلك جَهْمِ بن صَفْوَان، وأتباعه، فنفوا حكمة الله في خلقه وأمره، ونفوا رحمته بعباده، ونفوا ما جعله من الأسباب خلقًا وأمرًا،