للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

"إذا سمع الجاهل هذا التلبيس والتمويه استعظم ذلك ورآه إشكالاً يعسر الانحلال عنه، وأما المتبصر الذي نور الله قلبه فإنه يعرف أن هذا ليس محل إشكال ولا لبس بل هو من أوضح الأشياء وأبينها.

فإن الألف واللام في العرش للعهد الذي يفهمه كل مسلم أنه عرش الرب العظيم لا غيره من عروش الكرم ونحوها، ولو قيل له يحتمل واحداً غير هذا لبادر لإنكاره.

هذا مع اتفاق جميع الرسل وشهادتهم أنه استوى على العرش العظيم فكل مؤمن يفهم المعنى من قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ١.

وكذلك لفظ الاستواء المعدى بعلى فإنه واضح جداً دال على العلو والظهور فإن الاستواء حيث عُدي بعلى فإنه يدل على العلو والظهور، وأما إذا عدي بإلى نحو {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ٢ فإنه يدل على القصد٣، وإذا قيل استوى كذا وكذا دل على معية الأول للثاني كقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ٤ فهذه المعاني المتباينة بحسب تعديته كما ذكرنا.

فعلم علماً يقيناً أن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لا إشكال فيه ولا إجمال خصوصاً وقد طرد إتيانه بهذا السياق في جميع موارده ومصادره ولم يأت هذا المعنى بلفظ فيه إجمال، فلو كان المراد ما قصده الجهمي لأتى به ولو في موضع واحد ليستبين المراد"٥.

الشبهة الثانية: "قولهم إن إثبات الاستواء يقتضي التجسيم".

فالأشاعرة وغيرهم من الذين يثبتون بعض الصفات وينكرون البعض الآخر، يقولون إن إثبات الاستواء وغيره من الصفات الاختيارية يقتضي التجسيم.

وأجاب ابن سعدي عن هذه الشبهة، بأن جميع الصفات وردت في الكتاب والسنة فكيف جاز لكم تأويل بعضها وترك البعض، فإن قالوا بأن ما يقتضي التجسيم تأولناه؛ لأن الجسم من خصائص المحدثات المخلوقة فهذا الذي تأولناه ما نعقل منه إلا التجسيم فتعين تأويله.


١ سورة طه/ الآية ٥.
٢ سورة البقرة / الآية ٢٩ وغيرها.
٣ تقدم معنا ص ١٤٢ أن هذا القول مخالف لأقوال السلف، وأن استوى وإن عديت بـ "إلى" فمعناه على وارتفع، فليراجع.
٤ سورة القصص/ الآية ١٤.
٥ توضيح الكافية الشافية /٥٧، ٥٨.

<<  <   >  >>