للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقد قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: خير الناس النمط الأوسط الذي يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي. ذكره ابن المبارك عن محمد بن طلحة عن علي. وقال ابن عائشة: ما أمر الله عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان, فإما إلى غلو وإما إلى تقصير.

وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه, وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه, فقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} , وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} .

فمنع ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك, والتبذير انحراف في جانب البذل, ورضاء الله فيما بينهما, ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين, والوسط دائما محمي الأطراف, أما الأطراف فالخلل إليها أسرع كما قال الشاعر:

كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

فقد اتفق شرع الرب تعالى وقدره على أن خيار الأمور أوساطها.

وأما قولهم: إن محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصوته وقراءته يحملهم على احتمال إطالته فلا يجدون بها مشقة فلعمر الله إن الأمر كما ذكروا. بل حبهم له يحملهم على بذل نفوسهم وأموالهم بين يديه, وعلى وقاية نفسه الكريمة بنفوسهم فكانوا يتقدمون إلى الموت بين يديه تقدم المحب إلى رضاء محبوب.

ولعمر الله هذا شأن أتباعه من بعده إلى يوم القيامة لا تأخذهم في متابعة سنته لومة لائم ولا يثنيهم عنها عذل عاذل فهم يحتملون في متابعته والإهتداء بهديه لوم اللائمين وطعن الطاعنين ومعاداة الجاهلين الذين رضوا من سنته بآراء الرجال بدلا وتمسكوا بها فلا يبغون عنها حولا, وعرضوا عليها نصوص السنة والقرآن عرض الجيوش على السلطان فما وافقها قبلوه وما خالفها تلطفوا في رده بأنواع التأويل, فمرة يقولون: هذا متروك الظاهر, ومرة يقولون: لا يعلم له قائل, ومرة يقولون:

<<  <   >  >>