اعلم! ان للذات الاحديِّ في عالم صفاته الازلية تجلِّيَيْن جلاليّ وجماليّ. فبتجليهما في عالم صفات الافعال يتظاهر اللطف والقهر والحسن والهيبة. ثم بالانعطاف في عالم الافعال يتولد التحلية والتخلية والتزيين والتنزيه. ثم بالانطباع في العالم الأُخروي من عالم الآثار يتجلى اللطف جنة ونوراً، والقهر جهنم وناراً. ثم بالانعكاس في عالم الذكر ينقسم الذكر الى الحمد والتسبيح. ثم بتمثلهما في عالم الكلام يتنوع الكلام الى الأمر والنهي. ثم بالارتسام في عالم الارشاد يقسمانه الى الترغيب والترهيب والتبشير والانذار. ثم بتجليهما على الوجدان يتولد الرجاء والخوف.. وهكذا. ثم ان من شأن الارشاد ادامة الموازنة بين الرجاء والخوف، ليدعو الرجاء الى ان يسعى بصرف القوى، والخوف الى ان لايتجاوز بالاسترسال فلا ييأس من الرحمة فيقعد ملوماً، ولا يأمن العذاب فيتعسف ولا يبالي. فلهذه الحكمة المتسلسلة مارغّب القرآن إلاّ وقد رهَّب، وما مدح الابرار الا وقرنه بذمّ الفجار.
- ان قلت: فلِمَ لم يعطف هنا كما عطف في (اِنَّ الابْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ _ وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) ١.؟
قيل لك: ان حسن العطف ينظر الى حسن المناسبة، وحسن المناسبة يختلف باختلاف الغرض المسوق له الكلام. ولما اختلف الغرض هنا وهنالك، لم يستحسن العطف هنا؛ اذ مدحُ المؤمنين منجر ومقدمة لمدح القرآن، ونتيجة له، وسيق له. وأما ذم الكافرين فللترهيب لايتصل بمدح القرآن.
ثم انظر الى اللطائف المندمجة في نظم اجزاء هذه الآية!
فأولا: استأنس بـ (إنّ) و (الذين) فانهما أجْوَلُ وأسْيَرُ ما يصادفك في منازل التنزيل. ولأمر مّا أكثر القرآنُ من ذكرهما؛ اذ معهما من جوهر البلاغة نكتتان عامتان غير ماتختص كل موقع.