وإن كان وعظاً، كان أشْفَى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزَّجر، وأجدر بأن يُجلِّيَ الغَيَاية، ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويَشْفِي الغليل، وهكذا الحُكْم إذا استقريتَ فنُونَ القول وضروبَهُ، وتتبّعت أبوابَهُ وشُعوبه، وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تِقِلّ الحاجة فيه إلى التعريف، ويُستغنَى في الوقوف عليه عن التوقيف فانظر إلى نحو قول البحتري:
دانِ على أيدي العُفاةِ وشَاسِعٌ ... عن كل نِدٍّ في النَّدَى وَضَرِيبِ
كالبدرِ أفرط في العلوِّ وضَوْءُه ... لِلْعُصْبة السَّارينَ جِدُّ قَريبِ
وفكِّر في حالك وحالِ المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تَنْتَهِ إلى الثاني ولم تتدبّر نُصرته إيّاه، وتمثيله له فيما يُملي على الإنسان عيناه، ويؤَدِّي إليه ناظراه، ثم قِسْهُما على الحال وقد وقفتَ عليه، وتأمّلتَ طَرَفَيْه، فإنك تعلم بُعْد ما بين حالتيك، وشدَّة تَفَاوتهما في تمكُّن المعنى لديك، وتحبُّبِه إليك، ونُبْلِه في نفسك، وتوفيرِه لأُنْسِك، وتحكُم لي بالصدق فيما قلت، والحقِّ فيما ادَّعيتُ وكذلك فتعهَّدِ الفرقَ بين أن تقول: فلان يكُدُّ نفسه في قراءَة الكتب ولا يفهم منها شيئاً وتسكت، وبين أن تتلوا الآية، وتُنشد نحو قول الشاعر:
لَعَمْرُك مَا يَدْرى البَعِيرُ إذا غَدَا ... بأَوْسَاقه أو راحَ مَا فِي الغَرائِر
والفصل بين أن تقول أرى قوماً لهم بَهاء ومنظر، وليس هناك مَخْبَرٌ، بل في الأخلاق دِقّة، وفي الكرم ضَعْفٌ وقلّة وتقطع الكلام، وبين أن تُتبعه نحوَ قول الحكيم أما البيتُ فحسنٌ، وأما السَّاكن فرديء، وقولَ ابن لَنكك: