للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى السَّاجِيُّ , حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ , قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ: «إِذَا كُنْتَ فِي زَمَانٍ يُرْضَى فِيهِ بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ , وَالْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ , فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ فِي شَرِّ زَمَانٍ بَيْنَ شَرِّ النَّاسِ» وَلَقَدْ رُوِيَ عَنْ حَبْرٍ مِنْ أَحْبَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ , وَسَيِّدٍ مِنْ سَادَاتِ عُلَمَائِهَا أَنَّهُ قَالَ: مَا أَرَى أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ هَذَا الْخَلْقَ إِلَّا بِذُنُوبِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَمَعْنَى ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا زَلَّ عَنِ الْمَحَجَّةِ وَعَدَلَ عَنِ الْوَاضِحَةِ , وَآثَرَ مَا يَهْوَاهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ , وَسَامَحَ نَفْسَهُ فِيمَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ زَلَّ النَّاسُ بِزَلَلِهِ , وَانْهَمَكُوا مُسْرِعَيْنِ فِي أَثَرِهِ , يَقْفُونَ مَسْلَكَهُ وَيَسْلُكُونَ مَحَجَّتَهُ , وَكَانَ مَا يَأْتُونَهُ وَيَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَحَوبَاتِ الْمَآثِمِ بِحُجَّةٍ , وَعَلَى اتِّبَاعِ قُدْوَةٍ , فَلَا تَجْرِي مَجْرَى الذُّنُوبِ الَّتِي تُمْحَى بِالِاسْتِغْفَارِ , وَمُرْتَكِبُهَا بَيْنَ الْوَجَلِ وَالِانْكِسَارِ , فَالْمُقْتَدُونَ بِهِ فِيهَا كَالسَّفِينَةِ إِذَا غَرِقَتْ غَرِقَ بِغَرَقِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَوْهَرٌ خَطِيرٌ , أَضْعَافُ ثَمَنِهَا وَقِيمَتِهَا بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَعُودَ إِلَى جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ وَنَسْتَوْفِقُ اللَّهَ لِصَوَابِ الْقَوْلِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَمَّا الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا , أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحُدَّ لِذَلِكَ حَدًّا , أَوْ يُوَقِّتَ لَهُ وَقْتًا , فَهُوَ غَيْرُ حَانِثٍ , مَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي إِنْفَاذِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ , مَعَ مُوَاظَبَةِ الْأَوْقَاتِ لِمُوَاظَبَةِ عَزْمِهِ , وَتَصْحِيحِ نِيَّتِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي إِصْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ وَإِقَامَتِهِ عَلَيْهِ مُبَارَزَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَعَدِّي حُدُودِهِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَاسْتِجْلَابِ غَضَبِهِ وَلَعْنَتِهِ , وَالْخُلُودِ فِي أَلِيمِ عَذَابِهِ , فَإِنْ تَلَاوَمَتْ نِيَّتُهُ , أَوْ وَقَفَ عَزْمُهُ , وَحُلَّ عَقْدُ الْإِصْرَارِ مِنْ قَلْبِهِ , عَزَمَ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا فَسَاعَتُهُ بَانَتِ امْرَأَتُهُ , وَانْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا , وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ , فَلَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَفِي تَرَدُّدِهِ فِي يَمِينِهِ وَضَرْبِهِ عَرْضَ الْبِلَادِ وَمُلَاقَاةِ الرِّجَالِ يَلْتَمِسُ الْمَخْرَجَ مِنْ يَمِينِهِ وَالْخَلَاصَ مِنْ حَنَثِهِ مِنْ غَيْرِ الْوَفَاءِ بِيَمِينِهِ مَا دَلَّ عَلَى تَلَاوُمِ نِيَّتِهِ وَوُقُوفِ عَزْمِهِ , وَفُتُورِ قَلْبِهِ عَمَّا كَانَ حَلَفَ عَلَيْهِ , فَصَارَ ذَلِكَ إِلَى صَرِيحِ الْحِنْثِ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي: أَنْ تَسْأَلَ امْرَأَتَكَ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْكَ نَفْسَهَا بِشَيْءٍ تُعْطِيكَهُ مِنْ مَالِهَا , فَإِذَا قَبِلَتِ الْفِدْيَةَ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً , فَانْخَلَعَتْ مِنْكَ وَسَقَطَتْ عَنْكَ الْيَمِينُ الْأُولَى , ثُمَّ اخْطُبْهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَتَزَوَّجْهَا تَزْوِيجًا ثَانِيًا , وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ مَعَكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْفَتْوَى , وَلَا يُقَالُ لِقَائِلِهِ مُفْتٍ , وَلَا فَقِيهٌ , لِأَنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ تَعْلِيمُ الْحَقِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء: ١٧٦] يَقُولُ: يَسْتَعْلِمُونَكَ. قُلِ اللَّهُ يُعَلِّمُكُمُ الْحَقَّ. وَيَدُلُكَ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} [يوسف: ٤٦] . فَالْفَتْوَى هِيَ: تَعْلِيمُ الْحَقِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ الْحِيلَةَ وَالْمُمَاكَرَةَ فِي دِينِ اللَّهِ , وَالْخَدِيعَةَ لِمَنْ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ , حَتَّى يُخْرِجَ الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ , فَلَا يُقَالُ لَهُ مُفْتٍ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ , وَشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ , فَقَدْ تَيَقَّنَ عِلْمًا , وَعَلِمَ يَقِينًا أَنَّ هَذِهِ حِيلَةٌ لِإِبَاحَةِ مَا حَظَرَهُ اللَّهُ , وَتَوْسِعَةِ مَا ضَيَّقَهُ اللَّهُ , وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ , وَلَفْظِ حَقٍّ فِي ظَاهِرِهِ أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ فِي بَاطِنِهِ. وَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونِ , وَالْعُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ , وَالْفُقَهَاءُ الدَّيَّانُونَ , أَنَّ الْحِيلَةَ عَلَى اللَّهِ وَفِي دِينِ اللَّهِ لَا تَجُوزُ , وَأَنَّ فَاعِلَهَا مُخَادِعٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ , وَمَا يُخَادِعُ إِلَّا نَفْسَهُ , لَا مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى , وَيَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ , وَيَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ , وَمَنْ قَالَ: {إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران: ٢٩] . وَمَنْ قَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبَلِ الْوَرِيدِ} [ق: ١٦] وَمَنْ قَالَ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمِلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: ٦١] قَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الْخُلْعَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ هَذَا الْمُفْتِي لَيْسَ هُوَ الْخُلْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ , وَلَا هُوَ الَّذِي عَلِمَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادِهِ. وَذَلِكَ أَنَّا نَجْدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ الرِّجَالَ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ , وَجَعَلَ عَقْدَ النِّكَاحِ بِأَيْدِيهِمْ , وَجَعَلَ النِّسَاءَ كَالْعَوَارِي عِنْدَهُمْ. وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَوْلِ وَالنِّفَارِ وَالْبُغْضِ وَالنَّشَازِ , مَا إِنْ تَعَاشَرَا مَعَهُ خَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْخُرُوجَ عَنْ أَحْكَامِ الطَّاعَةِ إِلَى شُرُورِ الْمَعْصِيَةِ , وَلَا سَبِيلَ لِلْمَرْأَةِ إِلَى حَلِّ عِصْمَتِهَا بِنَفْسِهَا , وَكَانَ وَجُوبُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ وَمَا يَخَافُهُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ يَمْنَعُهُ مِنْ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا. جَعَلَ لِذَلِكَ حُكْمًا بَائِنًا مِنَ الْخُلْعِ بِإِعْطَاءِ الْفِدْيَةِ تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ بِهِ نَفْسَهَا , وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ مِنْ صَدَاقِهَا. فَأَمَرَ بِالْخُلْعِ وَقَبُولِ الْفِدْيَةِ , وَجَعَلَ ذَلِكَ لِذَلِكَ نَفْسِهِ , وَسَمَّاهُ حَدًّا مِنْ حُدُودِهِ الَّتِي مَنْ تَعَدَّاهَا كَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ , فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: ٢٢٩] فَجَعَلَ الِاخْتِلَاعَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَثَامًا , وَأَخْذَ الرَّجُلِ مِنْهَا الْفِدْيَةَ حَرَامًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَخَافَتِهِمَا عِصْيَانَ اللَّهِ , وَالْإِقَامَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى عِشْرَةٍ فِيهَا تَعَدِّي حُدُودِهِ وَالْمَعْنِي بِالْخُلْعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ حَالُهَا فِي تِبْيَانِ أَنَّ هَذَا الْحَالِفَ قَدْ وَضَعَ الْخُلْعَ فِي غَيْرِ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ وَقَصَدَهُ. {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: ٢٢٩] : فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ

<<  <   >  >>