وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يُوشِكُ أَنْ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ , وَمِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ , مَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى , عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ , مِنْ عِنْدِهِمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ , وَفِيهِمْ ⦗٦⦘ تَعُودُ» حَدَّثَنِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْفَامِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الدَّقِيقِيُّ , حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ , قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دُكَيْنٍ , حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ , عَنْ أَبِيهِ , عِنْ جَدِّهِ , عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَسَأَنْعَتُ لَكَ مَعْنَى الْفِقْهِ وَالْفَقِيهِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ نَعْتًا جَامِعًا مِنَ الشَّهَادَةِ الْمُقْنِعَةِ وَالدَّلَالَةِ الشَّافِيَةِ. مُخْتَصِرًا ذَلِكَ وَمُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِ الرِّوَايَةِ دُونَ النِّهَايَةِ وَمُلَخَّصَهُ مِنَ الدِّرَايَةِ , بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ تَلْخِيصًا يَأْتِي عَلَى مَا وَرَاءَهُ وَيُغْنِي عَمَّا سِوَاهُ. فَأَمَّا الْفِقْهُ فِي اللِّسَانِ الْفَصِيحِ , فَمَعْنَاهُ: الْفَهْمُ. تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَفْقَهُ قَوْلِي , أَيْ: لَا يَفْهَمُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: ٤٤] أَيْ: لَا تَفْهَمُونَ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: ١٢٢] أَيْ: لِيَتَفَهَّمُوهُ فَيَكُونُوا عُلَمَاءَ بِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لَا يَفْقَهُ وَلَا يَنْقَهُ , مَعْنَاهُ: لَا يَفْهَمُ وَلَا يَعْلَمُ ⦗٧⦘. وَنَجِدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَدَبَنَا إِلَى تَوْحِيدِهِ , وَالْمَعْرِفَةِ بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ , بِمَا دَلَّنَا عَلَيْهِ مِنْ بَدِيعِ صَنْعَتِهِ , وَعَجِيبِ حِكْمَتِهِ , وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْنَا مِنْ نِعْمَتِهِ , ثُمَّ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا أَظْهَرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ , وَفَصَّلَ هَذِهِ الْآيَاتِ , لِلْفُقَهَاءِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَهَمُّوا عَنْهُ , وَفَقِهُوا مُرَادَهُ , فَجَازَ أَنْ يَدُلُّوا عَلَيْهِ بِمَا دَلَّهُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ , وَجَازَ أَنْ يَكُونُوا هُمُ النُّصَحَاءَ لِعِبَادِهِ بِمَا نَصَحُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ , فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ نَفْسَهُ لِعِبَادِهِ وَعَرَّفَهُمْ رُبُوبِيَّتَهُ , وَدَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ , بِمَا أَشْهَرَ لَهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ , فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: ٩٥] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: ٩٦] . ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: ٩٧] . ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: ٩٨]
⦗٨⦘. فَلَمَّا فَقِهُوا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا عَظَّمَ بِهِ نَفْسَهُ , وَأَخْبَرَ بِهِ مِنْ جَلَالِهِ وَهَيْبَتِهِ , وَنَفاذِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَسَطْوَتِهِ , وَمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ ثَوَابِهِ , وَتَوَعَّدَ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ , وَمُلْكِهِ لِلْأَشْيَاءِ فِي الضُّرِّ وَالنَّفْعِ , وَالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ , وَالدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ , هَابُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَجَلُّوهُ , وَاسْتَحْيَوُا اللَّهَ وَعَبَدُوهُ , وَخَافُوا اللَّهَ وَرَاقَبُوهُ , وَذَلِكَ لِمَا فَقِهُوا عَنْهُ مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَعَظِيمِ رُبُوبِيَّتِهِ , وَلَصِقَ مَا فَقِهُوا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقُلُوبِهِمْ فَأَزْعَجَهَا , وَعَنْ جَمِيعِ مَكَارِهِ اللَّهِ بَاعَدَهَا , وَعَلَى مَا يُرْضِيهِ حَرَّكَهَا وَأَذَابَهَا , وَمِنْ مُخَالَفَتِهِ أَوْجَلَهَا وَأَرْهَبَهَا , فَعِنْدَ ذَلِكَ أَضَافَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَفْسِهِ فِيمَا شَهِدَ لَهَا بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} . ثُمَّ رَفَعَهُمْ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ فَقَالَ: {يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١] . وَقَالَ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: ٨٣] . قِيلَ: بِالْعِلْمِ ⦗٩⦘. فَهُمْ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ , وَأَهْلُ نُورِهِ فِي بِلَادِهِ , اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ , وَاخْتَارَهُمْ لِنَفْسِهِ , وَعَرَّفَهُمْ حَقَّهُ , وَدَلَّهُمْ عَلَى نَفْسِهِ , فَأَقَامَ بِهِمْ حُجَّتَهُ , وَجَعَلَهُمْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ , ذُبَّابًا عَنْ حَرَمِهِ , نُصَحَاءَ لَهُ فِي خَلْقِهِ , فَارِّينَ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ , فَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَسْأَلَتِهِمْ , وَالنُّزُولِ عِنْدَ طَاعَتِهِمْ , فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] . ثُمَّ أَلْصَقَ طَاعَتَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩] , قَالَ الْفُقَهَاءُ: كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ مَخْلَدٍ , حَدَّثَنَا الْحَسَّانِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ , عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ , بِذَلِكَ ⦗١٠⦘. فَطَاعَتُهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَاجِبَةٌ , وَمَعْصِيَتُهُمْ مُحَرَّمَةٌ , مَنْ أَطَاعَهُمْ رَشَدَ وَنَجَا , وَمَنْ خَالَفَهُمْ هَلَكَ وَغَوَى , هُمْ سَرْجُ الْعِبَادِ , وَمَنَارُ الْبِلَادِ , وَقَوَامُ الْأُمَمِ , وَيَنَابِيعُ الْحِكَمِ , فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَنٍ , وَصَفَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَشْيَةِ وَالِاعْتِبَارِ , وَالزُّهْدِ فِي كُلِّ مَا رَغِبَ فِيهِ الْجَهَلَةُ الْأَغْمَارُ , فَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨] . وَقَالَ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: ٤٣] . وَوَصَفَ قَارُونَ وَخُرُوجَهُ فِي زِينَتِهِ وَمُبَاهَاتَهُ لِأَهْلِ عَصْرِهِ بِمَا أُوتِيَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا , وَغِبْطَةِ الْجَاهِلِينَ لَهُ الْمُرِيدِينَ مِنْهَا مِثْلَ إِرَادَتِهِ وَتَأَسُّفَهُمْ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ , ثُمَّ دَلَّ عَلَى فَضْلِ الْعُلَمَاءِ وَإِصَابَتِهِمُ الصَّوَابَ بِعُزُوفِ أَنْفُسِهِمْ عَنْ مُلْكِهِ وَزِينَتِهِ وَرِضَاهُمْ بِمَا فَهَمُّوا عَنِ اللَّهِ , وَتَصْدِيقِهِمْ لَهُ فِيمَا وَعَدَ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ وَحُسْنِ مَآبِهِ لِمَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ , فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: ٧٦]
⦗١١⦘. ثُمَّ قَالَ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: ٨٠] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ تَخْصِيصًا لِلْعُلَمَاءِ , وَتَفْضِيلًا لِلْفُقَهَاءِ: {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: ٨٠] . يَعْنِي: الصَّابِرِينَ عَلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا , رِضَاءً بِاللَّهِ وَبِثَوَابِهِ , وَبِمَا أَعَاضَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْفَهْمِ عَنْهُ , وَبِمَا فَقِهُوا عَنْهُ مَا وَعَدَ بِهِ مَنْ صَبَرَ عَنْهَا , وَلِذَلِكَ يُرْوَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُّ فِي الدِّينِ»