بالتحريق والتفريق ويهوي بنا الريح في مكان سحيق فيفوتنا هذا الطلب إذا قيل إن الطبع غلب، وهذا إذا وصلنا إليه وتمثلنا بين يديه وأما إذا اعترضنا دونه كالعارض وجرحنا من جوارح الطير فلا حول يحمينا ولا قوة تنجينا فيبغينا كل باغ ويتجاذب لحمنا كل طاغ فيصير مثلنا مثل النمس والزاغ. قال الذكر: كيف ذلك المثل؟ أخبرني يا ست الحجل.
قالت: ذكر أهل الأخبار ورواة الأسمار أنه كان في بعض الرياض الزاهرة والغياض الفاخرة والبساتين العاطرة مأوى لزاغ ظريف حسن الشكل لطيف عشه في راس شجرة عطرة الطيب زاهرة ومثمرة فاقت على الأشجار بطيب النوار وحسن الثمار ورهاوة الخضرة وحسن النضرة كأنها بين الأشجار عروس أو زهر في وسط الكؤوس، فاتفق أن نمسا من النموس حل به في وكره البؤس فانزع عن وطنه واضطر عن مفارقة سكنه فقاده الزمان إلى هذا البستان فراقه منظره وشاقه نيره وأزاهره وأعجبه ظله وشجره وأطربه خريره ونهره فعزم على السكن فيه ووطن نفسه على الوطن في نواحيه إذ وجد أحسن منزل وإذا أعشبت فانزل ثم وقع اختيار ذلك الطاغ على وكر في أصل شجرة الزاغ فسوى له وكرا وحفره واستقر ساكنا في أصل الشجرة وألقى عصا السيار واستقرب هناك الدار، فلما رأى الزاغ هذا الحال داخله الخوف والأدجال وخشي أن يندرج من أدناها إلى أن يرتقي أعلاها فيعرف النمس سكنه القديم ويذيقه فيه العذاب الأليم فلم يجد له حيلة في الخلاص من هذا الاقتناص إلا مفارقته الوطن والانزعاج عن الألف والسكن وكيف يفارق ذلك النعيم ويسمح بالبعد عن الوطن القديم كما قيل:
بلاد بها نيطت علي تمايمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها