للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فغلبت محبة وطنه على قلبه فلم يطاوعه على فراقه لشدة حبه ثم اعتراه في ذلك الوسواس فأخذ يضرب الأخماس في الأسداس في وجه خلاصه من هذا البأس فرأى المدافعة والممانعة بخاطره عن جواره أولى وأتم وأحق وأعلى، ثم افتكر في كيفية المدافعة وسلوك طريق الممانعة فلم ير أوفق من المصانعة وتعاطي أسباب المخادعة ليقف أولا بذلك على أمره ويعرف مقدار خيره وشره وبصل إلى مقدار قوته وضعفه ورصافة فهمه وعقله ورضاه وسخطه وسره في حالة غضب واكتفاه ويدرك غور أحواله ومنتهاه ثم يبني على ذلك أساس رفعه وهدم ما يبنيه من قلعته لقلعه، فهبط إلى النمس من الهوى وحفظ شيئا وسلم عليه سلام المحب من الحبيب وجلس منه بمكان قريب وخاطبه خطاب ناصح لمريب استبهج بجواره واستأنس بقرب داره وذكر له أنه كان وحيدا وعن الأنيس والجليس الموافق فريدا وقد حصل له الأنس بموافقة النمس ولقد أحسن من قال:

انفراد المرء خير له ... من جليس السوء عنده

وجليس الخير خير ... من قعود المرء وحده

فاستمع النمس كلام الزاغ وما طغى بصبر بصيرته عن مكابرته وما زاغ ثم افتكر في نفسه ونظر في مرآة حدسه فقال إن هذا الطير خبيث السيرة مشهور وبسوء السريرة مذكور لا أصل له زكي ولا فرع له على ولا غائلته مضمونة ولا صحبته مأمونة لا خير عنده ولا مير بل يخشى منه الضرر والضير وهو كما قيل:

وهو غراب البين في شؤمه ... لكن إذا جئنا إلى الحق زاغ

ولم يكن قط بيني وبينه علاقة ولا واسطة محبة ولا صداقة، وأما العداوة فإنها بيننا متأكدة مستحكمة وكل منا للآخر مأكله

<<  <   >  >>