كما ذكرت في المسائل الأربعة الأولى من هذا المبحث، أن حجة الله البالغة على عباده لا تقوم إلا بالرسالات وأن العقل لا يصلح حجة سواء في أصل التوحيد أو في فروعه، وأن الميثاق والفطرة حجتان ناقصتان محتاجتان إلى التذكير بهما عن طريق الحجة الرسالية.
فنخلص من هذا كله إلى أن إطلاق القول بعدم العذر بالجهل في أصل التوحيد، وإن كان يقول به بعض أهل العلم المتأخرين (١) ويتبعهم على ذلك بعض المعاصرين، مذهب غير صحيح وليس عليه من البراهين والحجج ما يقوى على مناطحة الأدلة والنصوص المتظافرة التي قدمت بعضها فيما سبق.
نعم، يمكن حمل كلام هؤلاء العلماء على أنهم لايعذرون بالجهل في مسائل التوحيد المعلومة من الدين بالضرورة أو التي استفاضت تفاصيلها واشتهرت، وبالنسبة للذين من شأنهم أن يكونوا عالمين بهذه المسائل، بأن يتوفر فيهم ضابط التمكن من العلم الذي ذكرته آنفا.
فمثلا، من كان يعيش في بلاد الإسلام، ولم يكن حديث عهد بالكفر، وكان كامل الحواس متمكنا من سماع العلم وفهمه، فإنه لايعذر بالجهل إذا وقع في عبادة الكواكب والأصنام، أو سب الله غز وجل، أو استهزأ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك مما لايتصور فيه حدوث الجهل به. وهذا في حقيقة الأمر، يؤول إلى الضوابط التي ذكرتها آنفا لصحة العذر بالجهل، وعلى الخصوص ضابط التمكن من العلم.
(١) - هذا مشهور في كتابات أئمة الدعوة النجدية، من لدن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وقد كُتب الكثير في محاولة فهم وتحليل موقف هؤلاء الأئمة من قضية العذر بالجهل، وليس فيما كتب ما يروي الغليل ولا ما يشفي العليل، بل القضية ما تزال محتاجة إلى جهد تحليلي أكبر.