للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألا نرى فيه من أول وهلة الخط الفاصل الذي يميز هذه الصيغة من الأخريات؟؟

ليست هذه هي الصيغة: "افعلوا ما يبدو لكم حسنًا" تبعًا لإلهام اللحظة.

وليست هذه أيضًا صيغة الواجب الصارم على سبيل القهر، دون استثناء أو تعديل. ليست هذه أو تلك، ومع ذلك فهي تتفق معهما في امتدادها العميق.

بهذه الكلمات الجامعة البينة يلفت القرآن أنظارنا نحو السماء، وهو يثبتنا على أسس متينة من الواقع، وهكذا نجد طرفي السلسلة وقد اجتمعا: صعود نحو المثل الأعلى، وإنقاذ للفطرة؛ خضوع للقانون، وحرية للذات.

ولكن، هل ترون أن هذا ممكن؟! ألا يجوز أن يتنافر هذان الطرفان المتعارضان؟ أم لا لا يجوز لكل فرد، منذ اللحظة التي يصرح له فيها بتحديد واجبه بالنسبة إلى حالته الخاصة -أن يتجاوب مع نوازعه الطارئة، ويطرح بهذا سلطة الأمر؟

هذا ما لا يحدث أبدًا؛ لأن الضمير الذي يخاطبه القرآن ليس ذلك الضمير الفارغ؛ غير المهذب، المتروك دون مرشد غير حالته البدائية، على ما عليه إنسان الطبيعة لدى "روسو". وليس هو أيضًا ضمير ذات مختلقة، كالذات الخالصة moi transcendantal لدى "كانت".

إنه ضمير يجمع شرطين لم يجتمعا خارجه قط، فهو أولًا مستنير، بفضل تعليم إيجابي، حددت فيه الواجبات ورتبت بدرجة كافية. وهو فضلًا عن ذلك قائم في مواجهة واقع حي، ومراعى إلى أقصى حد.

وباختصار: ذلكم هو ضمير المؤمن، ومن خصائص ضمير كهذا أن يكون لديه، وهو حاضر في ذاته، ومهيأ للتناصح، شخصية مشرعه، فما كان له إذن أن يستسلم لاعتبارات يعلم أنها غير مشروعة في نظر واضع الشرع, بَلْه أن يخون نفسه.

<<  <   >  >>