للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

للقرآن- أن هذا الإغراء لم يكن في جوهره ذا طابع مادي، فإن جدّنا الأول قد خدعته كلمات عدو أقسم له تأكيدًا لكلامه. وزعم أنه ينصحه، فاعتقد بسذاجته أن حين يأكل الفاكهة المحرمة فربما يصبح نقيًّا كنقاء الملائكة، خالدًا كخلود الإله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} ١، {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ٢، ويا لها من غلطة نبيلة!! فمن ذا يطيق ألا يبالي بمثل هذا إذا كان ملتزمًا بأوامر الضمير؟ ولكنه الوهم الكاذب الذي زينه لعينيه ذلك الناصح المنافق. وعلى الرغم من أنه كان منذ البداية محصنًا ضد المكائد المحتملة من عدوه، فقد نسي الإنسان الأول، وجاءت اللحظة التي لم يجد لنفسه فيها إرادة صامدة: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} ٣.

ومع ذلك فهذا النسيان لا يعتبر بالنسبة إليه عذرًا مقبولًا، كما أن النية الطيبة لا تشفع له كذلك؛ لأن النسيان لم يكن للأمر في ذاته، بل للهدف منه، وأيًّا ما كانت الدوافع النبيلة وراء المخالفة، فإنها لا يمكن أن تعرينا من التزام مطلق واضح المعالم والحدود. وفي هذا النوع من الأمر الحتمي تظهر بوضوح متانة الصرامة "الكانتية" التي لا تسمح بأي استثناء يرد على القاعدة الأخلاقية.

فخطيئة آدم كانت إذن أثرًا من آثار ضعف عارض، وجهد قاصر في مراعاة الواجب. ومن هنا لم تفسد فطرة الإنسان الأول، بحيث تستلزم تدخل "مخلص" غيره نفسه، إذ كان يكفيه أن يعترف بخطيئته، ويظهر ندمه، لا ليغسل دنسه، وتعود إليه سريرته النقية، كما كانت فحسب، ولكن


١ الأعراف: ٢١.
٢ الأعراف: ٢٠.
٣ طه: ١١٥.

<<  <   >  >>