للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إن من المستبعد أن نحكم على هذه الأمور الإلهية بأنوارنا الفطرية وحدها، فنحن نعلم أنه في مجال الحقائق المنزلة يجب أن نطبق منهجًا مناسبًا، بأن نلجأ إلى النصوص التي أوحت إلينا هذه الحقائق، وكل ما نملك من أن نحسن الاختيار من بين هذه النصوص.

وإذن، فإن لدينا -أولًا- أصلًا من المبدأ القرآني، ينبغي أن يؤدي دوره في تفسير جميع النصوص الخاصة، فالعدالة الإلهية، التي يعبر عنها القرآن لا تحكم على الأشياء جملة، أو بصفة تقريبية، وإنما هي تزن ميزانًا دقيقًا كل درجة من درجات الجهد: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ١، حتى لو كان في وزن الذرة: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} ٢, {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} ٣. فإذا كان الجهد الباطن يستغرق الأجر كله فكم من الذرات يضيع!! وإنه لجدير بنا أن نقول: إن لفضل الله مطلق الحق في أن يتقبل هذا العمل أو ذاك بإحسان أكثر، وأن يخصه بأجر أكرم مما يستحق في ذاته، ومن ثم يرتقي بالنية إلى مستوى العمل، وذلك كله بعد أن يكون قد أعطى كلاًّ بحسب أعماله -نعم، ولكن شريطة ألا تستتبع هذه الترقية اضطرابًا في السلم كله، وهو ما سوف يحدث لا محالة، فإن جميع الدرجات العلى يجب حينئذ أن تتطلع إلى ارتقاء آخر، يجعلها أكثر علوًّا مما كانت. وإذن، فلن يعدو الأمر أحد احتمالين: إما ألا يجاب مطلبها، ويصطرع الكرم مع العدالة المنزهة؛ وإما أن تمنح كسبًا جديدًا، وحينئذ تكون النسبة مراعاة، ويستقر التدرج مرة أخرى.

ولدينا -بعد هذا المبدأ العام- نصوص محددة، تؤكد صراحة هذا الفرق في الدرجة بين النية المتحققة، والنية المخفقة:


١ الأحقاف: ١٩.
٢ يونس: ٦١.
٣ الزلزلة: ٧-٨.

<<  <   >  >>