للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وحفظ لنا التاريخ نزاهة هؤلاء القضاة، فلم يُعرف عنهم ميل إلى الدنيا واغترار بها يعدل بهم عن قول الحق، والحكم به، وكان في نظرهم سواء: الشريف والوضيع، والخليفة وأفراد الرعية، ولم يتأثروا بالفتن، وبقي القضاء نظيفاً كما هو من الاستمرار في العدل فكان عامل جذب كبير لرعايا الدولة الإسلامية إلى اعتناق الإسلام.

وقد اهتم الخلفاء بجميع أفراد الأمة من مسلمين وغير مسلمين، وقصة القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص مشهورة. وقصة العاشر والتّغلبي النصراني مع عمر بن الخطاب١، واليهودي المتسوّل٢ الذي فرض له ولأمثاله من بيت مال المسلمين. وقصة جبلة بن الأيهم الغساني مع الأعرابي الفزاري٣، وقصص جلوس الخلفاء أنفسهم للقضاء أمام خصومهم، كل ذلك مكن للدعوة الإسلامية من التثبيت، والامتداد، والانتشار.

وجلس الخلفاء أنفسهم أمام رعاياهم من أهل الذمة للقضاء، وقضية الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الرجل النصراني دليل على ذلك:

"وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح٤ قاضيه، وقال له:

"الدرع درعي، ولم أبع، ولم أهب".

فقال شريح للنصراني: "ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين"؟.

فقال النصراني: "ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب".

فالتفت شريح إلى علي. فقال:

"يا أمير المؤمنين هل من بينة " فضحك علي.

وقال: "أصاب شريح مالي بينة".

فقضى شريح للنصراني. فأخذ النصراني الدرع، ومشى خطوات، ثم رجع وقال:

"أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي عليه. أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين".


١ يحي بن آدم- الخراج ٦٤.
٢ أبو يوسف- الخراج ١٢٦- الطماوي- عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة ٩٨.
٣ الطبري ٥/.٢٤، الكامل في التاريخ ٤/ ٥ ١٠، ابن كثير- البداية٨/ ٢١٧.
٤ شريح الكندي من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضاء الكوفة، وأقام قاضياً ستين سنة، وقضى بالبصرة سنة، فكان يقال له "قاضي المِصرَين"، وقيل أنه استعفى من القضاء قبل موته بسنة. وتوفي سنة ٧٨هـ أو سنة ٨٠هـ.
[انظر: الذهبي _ سير ٤/١٠١، ابن كثير_ البداية ٩/٢٥، الخطيب البغدادي ٥/٩٦]
وكيع _ أخيار القضاة ٢/١٨٩_ ٤٠٩ حيث استوفى أخباره.

<<  <   >  >>