وكان رحمه الله منذ حلّ الشباب تميمته، قد عقد على اقتناء المعارف عزيمته، ففارق سكنه وهجر إلى بلاد العجم وطنه، واشتغل على مَن هناك من الجهابذة الطائر ذكرهم في الآفاق، كالملاّ رجب علي والملاّ شمسا الجيلاني وأمثالهما من حكماء الإشراق، إلى أن نبغ بين الأقران والأتراب، والتقط من فرائد فوائدهم ملء الكمّ والجيب والجراب. ثُمَّ رجع إلى أهله وجيرته محموداً في سريرته وسيرته، وكان في عنفوان أمره وريعان عمره قاصر الطرف على الفلسفة والمنطق، لا يلهج بغيرهما ولا ينطق، ولم يتفرّغ للعلوم السّمعية، إلاّ بعد ان أخلق البُردَ القشيب، وخرج من وراء الشباب إلى ذيول المشيب، فأسف حينئذٍ وندم، على تأخير ما أخّر وتقديم ما قدّم.
وقد بلغني من زهده وكرامته قدّس الله روحه، انّه كان في أوقات مجاورته بالحرمين الشريفين قد قلّ ماله، ورثّ حاله، وكان أحد عظماء العرب قد نذر لله مالاً جزيلاً يصرفه في وجوه القرب، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله في الطيف وقال: ائتِ مسجد الخيف، وابغ رجلاً من أولادنا من حليته كذا وكذا فإذا اصبته بالوصف المذكور، فادفع إليه المال المنذور، فانتبه الرجل قرير العين، متأهّباً لقضاء الدين، وتوصّل إلى الموسم، يتخلّل الناس، ويتطلّعهم في الهيئة واللّباس، حتى وقع نظره عليه، فألقى سرّه وصرته إليه، فأنف السيد عن القبول، وقال دعني من هذا الفضول، لعلّك تجد في هذا الجمّ الغفير، أخصّ بهاتيك الصفات، وأحوج إلى هذا المال منّي بكثير، على أنّ