وتلطّف أروح من النّسيم، ولفظ أروق من الراح، وأرقّ من الماء القراح، ونفس قويّة، وفطرة عالية عَلَويّة، وها هو مدّ الله في سعادته، وأبّد أيام إفادته، قد ذرَف على السبعين، وهو يُعين ولا يستعين ويقوم بالأعباء من حفظ النِّظام، وفصل الخصام، وتنفيذ الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الجماعات، وإمامة الجمعات، وقضاء الحقوق والتدريس والخطابة والنقابة، والنظر في مصالح كثيرة للخلق لا تنتظم بغيره، ومراقبة الوفود، وإصدارهم بالصّلات والرُّفود، وأمّا الأدب فهو نادرة عصره، ورُواقُ قصره ونطاق خصره، وأمير مصره، بل سناد ظهره، ووحيد دهره، تنثال المعاني على ذهنه وتنهار، وتتوارد الأسجاع إلى لفظه توارد الفراش إلى النّار، إن خطب انقطع خطيب خوارزم، وبان الفشل على وجه أبي حزم، أو كتب مادَ الميداني والبديع الهمداني، وطرب صاحب الأغاني، ومسلم صريع الغواني، أو أملى التقط الجوهريُّ جواهر كلماته، وحصر الحريريُّ في مقاماته، ونضب ماء ابن ميّاح وأصبح ابن نباتة هشيماً تذروه الرياح.
وإنّي وإن أطريت في وصفه، وقاه الله ريبَ المَنون، لربّما تسارَعتْ إليّ الظنون فلأكفّ عن سرد مناقبه الجليلة، وقصيرة بطويلة.
وُلِد دام عزّه في عشر التسعين بعد الألف بدار المؤمنين تُستَر بعد انتقال والديه إليها من الجزائر بسبب الفتنة التي نشأت هناك في السنة الثامنة والسبعين، وذلك حين توجّه العسكر من القسطنطينية