بها، كما تقول: لن أُلِحَّ عليك في زيارتنا. فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالطلب المباشر الصريح".
ومهما كان الرأي في دخول (لا) على فعل القسم، فإن هذا لا يُغَيِّرُ شيئاً من أصل المسألة، وهي أنه ابتدأ السورةَ بالقسَمِ بيوم القيامة والنفس اللوامة نفياً أو إثباتاً. وقد حاول المفسرون أن يجدوا المناسبة لاجتماعهما في القسم فقالوا: "المقصود من إقامة القيامة، إظهار أحوال النفوس اللوامة، أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشديدة".
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "وجمع سبحانه في القسم بين محلِّ الجزاء وهو يومُ القيامة، ومحلِّ الكَسْبِ وهو النفس اللوامة ... ولما كان يومُ معادها هو محل ظهور هذا اللوم وتَرتُّبِ أثرهِ عليه، قَرَنَ بينهما في الذِّكْرِ".
إن السورة مبنية على ما ابتدأت به من القسم، فهي مبنية على أحوال يوم القيامة، وعلى النفس، ولا تكاد تخرج عن ذلك.
هذا أمر. والأمرُ الآخر أنه تعالى لم يقسم بالنفس على صفة الإطلاق، بل أقسم بنفسٍ مخصوصة، وهي النفس اللوامة، وهذا له طابعهُ الواضح في السورة كما سنبين.
إن الإنسان يلومُ نفسه لأحدِ سببين:
إما أن يتعجل فيفعل ما لا ينبغي له فعله، فيندم على ذلك فيبدأ يلوم نفسه، لِمَ فعلت ذاك؟ لِمَ لَمْ أتروَّ؟
وإما أن يتراخى عن فِعْل كان الأَوْلى له أن يفعله، وأن يَغتنم الفرصة التي سنحت له، ولكنه قعد عن ذلك مُسَوِّفاً، ففاته نفعٌ كبير، وقد لا تسنح له فرصة، كالتي فاتت، فيبدأ بلوم نفسه. لم تباطأتُ، لمَ لم أفعل؟ لمَ لم أغتنم الفرصة؟ ونحو ذلك.
والسورة مطبوعة أيضاً بهذين الطابعين من صفات النفس اللوامة، طابع العجلة التي تدعو إلى الندم واللوم، وطابع التباطؤ وتفويت الفرص الذي يؤدي إلى الندم واللوم أيضاً.
فالسورة مبنية على ما ابتدأت به.
يوم القيامة، والنفس اللوامة في حاليها: العجلة والتباطؤ.
أما يوم القيامة، فقد تكررت أحواله في السورة في تناسق لطيف، إلى أن ختمت بقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} فتناسب بَدْءُ السورةِ مع خاتمتها.
ثم قال بعد القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة:
{أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} فعاد إلى القيامة.
والملاحظ في هذا التعبير أنه جمع بين نفس الإنسان ويوم القيامة، أيضاً كما ابتدأت السورة فقال: {أَيَحْسَبُ الإنسان} أي: أَيظنُّ ذلك في نفسه؟ والحسبانُ أمرٌ نفسي داخلي، ولم يقل مثلاً: (لنجمعنك إلى يوم القيامة) أو (لتبعثن) ونحو ذلك فجمع بينهما في تناسق لطيف مع بداية السورة، وهو اختيار فني رفيع.