ومعلوم أن الاتيان بمثل هذه الامور، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق - أمر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرهم: فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، أو مناقضته في شكله " وأنى لهم ذلك وأمر معاناة المعاني التى تحملها الالفاظ، شديد بالغ الشدة لانها نتائج العقول، وولائد الافهام، وبنات الافكار.
وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر، لانها لجام الالفاظ وزمام المعاني، وبه يتصل أخذ الكلام، ويلتئم بعضه ببعض، فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان " ثم ذكر أقوال المعاندين للقرآن، لما عجزوا عن معارضته، وقال:" إن عمود هذه البلاغة التى تجتمع لها هذه الصفات، هو وضع كل نوع من الالفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الاخص الاشكل به.
الذى إذا أبدل مكانه غيره جاء منه: إما تبدل المعنى الذى يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة.
ذلك أن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، كالعلم والمعرفة والحمد
والشكر.
والامر فيها وفى ترتيبها عند علماء اللغة بخلاف ذلك، لان لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانا قد يشتركان في بعضها ".
ثم مضى يبين الفروق بين معاني الكلمات التى ذكرها، وأتبعها بطائفة الاعتراضات التى وجهت إلى القرآن، أو التى يمكن أن توجه إليه، كتأليف معظم كلامه من ألفاظ مبتذلة في مخاطبات العرب، مستعملة في محاوراتهم، وقلة حظه من الغريب المشكل، بالاضافة إلى واضحه الكثير، وقلة عدد الفقر والغرور من ألفاظه، بالقياس إلى مباذله ومراسيله.
والقول بأن كثيرا من العبارات الواقعة في القرآن، لم تقع في أفصح وجوه البيان وأحسنها، وأنه قد عرض فيه سوء التأليف من نسق الكلام على ما ينبو عنه ولا يليق به، وإدخاله بين الكلامين ما ليس من جنسهما، مع ما فيه من الحذف والاختصار، ومضاعفة التكرار، وغير ذلك مما يشكل معه الكلام ويستغلق معناه، ويخرج به عن الفصاحة العالية والبلاغة السامية.