ويصطنعون الحذر والدهاء في كل ما يأتون وما يذرون، خوفا من بطش الخلفاء
الراشدين، ومن تلاهم من خلفاء الامويين.
وخلف من بعد هؤلاء خلف كانوا أكثر ثقافة، وأعزر علما، وأحسن بيانا فأصحروا بآرائهم، وجاهروا بمعتقداتهم، وبثوا شكوكهم في المجالس والاندية، وسطروها في الكتب والرسائل التى أسرفوا في تحسينها، وبالغوا في تزيينها، وغالوا في انتقاء ورقها ومدادها واستجادة خطها، ليحسن وقعها في الانظار، وتصبو إليها أنفس القراء.
وقد ساعدهم على جهرهم هذا ومكن لهم منه، تبدل الزمان وتغير الحال، بتسامح الخلفاء في غير ما يمس سلطانهم ويعرض لدولتهم، وامتلاك غير العرب لزمام الامور في الدولة، وانتشار الكتب المترجمة، وازدياد اتصال العرب بغيرهم من أهل المذاهب والنحل الاخرى، وكثرة الجدال بين المذاهب الاسلامية، واشتعال نار العداوة بين الفرق الكلامية ولما كثرت المطاعن في القرآن، وأوشكت الشبهات أن تأخذ سبيلها إلى نفوس الاغرار والاحداث -: نهض فريق من العلماء يدرءون عنه، وينافحون دونه ويرمون من ورائه بالحجج النيرة، والادلة الواقعة، فشرعوا أقلامهم لتأليف الكتب والرسائل في الرد عليهم، وتبيين مفترياتهم.
وفى طليعة هؤلاء أبو محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينورى، فقد عمد إلى مطاعنهم فيه فجمعها، ثم كر عليها بالنقض في كتابه الجليل:" تأويل مشكل القرآن " وكانت مسألة الاعجاز من أبرز المسائل التى تعاورها العلماء بالبحث في أثناء تفسيرهم للقرآن، وردهم على منكري النبوة، وخوضهم في علم الكلام، كعلى بن ربن كاتب المتوكل في كتاب:" الدين والدولة " وكأبي جعفر الطبري في تفسيره: " جامع البيان عن وجوه تأويل آى القرآن " وكأبي الحسن الاشعري في " مقالات الاسلاميين " وأبى عثمان الجاحظ في كتاب: " الحجة في تثبيت النبوة "
وكان علماء الاعتزال أكثر المثيرين للكلام في إعجاز القرآن، فقد ذهب النظام - من بينهم - إلى أن القرآن نفسه غير معجز، وانما كان إعجازه بالصرفة