ظهوراً لا يُطاق والمقام بموضع يظهر فيه الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأغلب" ونحوه نقل ابن حجر. أما إن لم يأن أوان المفاصلة فيظل الإنكار والقيام بأمر الله صارفاً للعذاب، قال الله عز وجل: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" [الأنفال:٣٣]، ولذا قال ابن عباس _رضي الله عنه_: لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا , وللعلم والتنبيه الهجرة من دار الفسق والبدعة مشروعة كما قرر العلماء ولكنها لا تجب , ومناط إيجاب الهجرة هو عدم القدرة على إظهار الدين سواء كانت دار كفر أو لا.
٤ - وقد يأمر أهل الخير بالمعروف وينهون عن المنكر فلا يُستجاب لهم، ويستشري الفساد فلا يمايزون قومهم، وقد يكون هذا بعذر كعدم القدرة على المفارقة مع سعيهم لها، أو بغير عذر غير استمرارهم في الأمر والنهي طمعاً في أن يغير الله حالهم، فيدأبون على ذلك حتى ينزل العذاب، فهؤلاء قد يكرمهم الله بالنجاة وبالأخص إن سعوا في التمايز وبذلوا أسبابه، كما أكرم الله سبحانه موسى وقومه بالمعجزة الباهرة يوم فرق البحر فأنجاهم، ثم أغرق عدوهم ودمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون, وقد يأخذهم الله مع الهالكين وبالأخص إن لم يعمدوا إلى مفاصلة قومهم، ولم يسعوا في مفارقتهم، رحمة بهم وتداركاً لهم قبل أن تصلهم يد الباطل المفسدة، ثم يبعثهم على نياتهم، ولعل من لطف الله بعباده المخلصين أنه يقدر لهم في مثل هذه الأحوال ما هو خير لهم فيكتب النجاة لمن كانت الحياة خيراً له، ويقبض إليه من كان قبضه خيراً له.
وبهذا يظهر وجه احتجاج نبي الله الحليم إبراهيم عليه السلام على الملائكة بقوله: "إِنَّ فِيهَا لُوطاً" [العنكبوت:٣٢]، أثناء مجادلته عن قوم لوط طمعاً في تأخير العذاب عنهم، فجاءه الجواب: "قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ" [العنكبوت:٣٢].
فكان اعتراضه صحيحاً، ومراده منه تأخير العذاب عن القوم لعلهم يرجعون، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: "فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ" [هود:٧٤ - ٧٥]، فاعتراضه بلوط كان من أجل قومه، ولهذا قال الله تعالى: "يجادلنا في قوم لوط"، فجاءه الرد بأن ما اعترض به لن يناله السوء هو وأهله المؤمنون به، فلم تبق حجة تمنع حلول العذاب بالمفسدين، وفي هذا إقرار لصحة الاعتراض الأول القاضي بمنع إهلاك الأنبياء بعذاب يعمهم وأقوامهم، وكذلك المؤمنين من أتباعهم، وقد أورد أهل التفسير ما يدل على هذا أثناء حكايتهم لمجادلة إبراهيم، ويشهد له ما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما.