للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

• تأويل ابتلاء الأنبياء:

بداية أخي المسلم اعلم أن العلماء اختلفوا في عصمة الرسل عليهم السلام، فذهب كثير منهم إلى أنهم معصومون من تعمد الذنب مطلقا، وأن ما نسب إليهم من ذلك فهو من الخطأ والنسيان أو فعل خلاف الأولى مما يقال في مثله: حسنات الأبرار سيئات المقربين , وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الأنبياء تجوز عليهم صغائر الذنوب ولكنهم لا يقرون عليها، فهم معصومون من الإقرار على الذنوب بل يبادرون بالتوبة النصوح وتكون التوبة في حقهم كمالا ويكونون بعدها خيرا وأفضل مما كانوا قبلها، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية قال رحمه الله: وَلِهَذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إنَّمَا هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَنَّ اللَّهَ يَسْتَدْرِكُهُمْ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فإنه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتِ الْمُقَرَّبِينَ. وَأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِكَمَالِ النِّهَايَةِ بِالتَّوْبَةِ لَا لِنَقْصِ الْبِدَايَةِ بِالذَّنْبِ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا تَجِبُ لَهُ الْعِصْمَةُ. انتهى.

وعلى كل تقدير فما يصيب الأنبياء من المصائب والبلايا ليس لذنب ارتكبوه فإنهم إما معصومون من تعمد الذنوب مطلقا كما ذكرنا وإما من الإقرار عليها، ولكن تكون المصائب في حقهم لحكم عظيمة منها رفع درجاتهم، ومنها أن يكونوا أسوة لمن بعدهم من أممهم، ومنها ألا يغلوا فيهم أتباعهم فيخلعوا عليهم ما هو من خصائص الألوهية.

قال شيخ الإسلام: وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم. انتهى.

قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة"

" وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان. . . وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين الكرامة في حقهم، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله مِن نعمة جسيمة ومنَّة عظيمة تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان.

فتأمل حال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية ورفعة المنزلة. . .

وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله عليه وسلم وما آلت إليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها حتى أقر الله عينه، وأغرق أهل الأرض بدعوته، وجعل العالم بعده من ذريته، وجعله خامس خمسة وهم أولو العزم الذين هم أفضل الرسل , وأمَر رسولَه ونبيه محمَّداً أن يصبر كصبره، وأثنى عليه بالشكر فقال: (إنه كان

<<  <   >  >>