ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وعمود العالم وخليل رب العالمين من بني آدم، وتأمل ما آلت إليه محنته وصبره وبذله نفسه لله، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلاً لنفسه. . . وضاعف الله له النسل وبارك فيه وكثر حتى ملؤوا الدنيا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة، وأخرج منهم محمَّداً صلى الله عليه وسلم وأمَره أن يتبع ملة أبيه إبراهيم. . .
ثم تأمل حال الكليم موسى عليه السلام وما آلت إليه محنته وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره حتى كلَّمه الله تكليما، وقرَّبه منه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السموات، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره، فإنه رمى الألواح على الأرض حتى تكسرت، وأخذ بلحية نبي الله هارون وجرَّه إليه، ولطم وجه ملك الموت ففقأ عينه، وخاصم ربه ليلة الإسراء في شأن رسول الله، وربه يحبه على ذلك كله، ولا سقط شيء منه من عينه، ولا سقطت منزلته عنده، بل هو الوجيه عند الله القريب، ولولا ما تقدم له من السوابق وتحمل الشدائد والمحن العظام في الله ومقاسات الأمر الشديد بين فرعون وقومه ثم بني إسرائيل وما آذوه به وما صبر عليهم لله لم يكن ذلك.
ثم تأمل حال المسيح صلى الله عليه وسلم وصبره على قومه واحتماله في الله وما تحمله منهم حتى رفعه الله إليه وطهره من الذين كفروا وانتقم من أعدائه، وقطَّعهم في الأرض ومزَّقهم كل ممزق وسلبهم ملكهم وفخرهم إلى آخر الدهر. . .
فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتأملت سيرتَه مع قومه وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه مِن سِلْم وخوف، وغنى وفقر، وأمن وإقامة في وطنه وظعن عنه وتركه لله وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله يدعو إلى الله فلم يؤذ نبي ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يعط نبي ما أعطيه، فرفع الله له ذكره وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهاً، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفاً وفضلاً، وساقه بها إلى أعلى المقامات.
وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل كلٌّ له نصيب من المحنة، يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له " انتهى.