وعلَّمناه من لَّدُنَّا علماً) [الكهف: ٦٥] ، والأظهر أنّ هذه الرحمة هي رحمة النبوة، وهذا العلم هو ما يوحى إليه به من قبل الله.
الثاني: قول موسى له: (هل أتَّبعك على أن تعلمن ممَّا عُلمت رُشداً - قال إنَّك لن تستطيع معي صبراً - وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً - قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصى لك أمراً - قال فإن اتَّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتَّى أُحدث لك منه ذكراً)[الكهف: ٦٦-٧٠] فلو كان غير نبيّ لم يكون معصوماً، ولم يكن لموسى - وهو نبيٌّ عظيم، ورسول كريم، واجب العصمة - كبيرُ رغبةٍ، ولا عظيم طلبة في علم وَليَّ غير واجب العصمة، ولما عزم على الذهاب إليه، والتفتيش عنه، ولو أنَّه يمضي حقباً من الزمان، قيل: ثمانين سنة، ثمَّ لما اجتمع به، تواضع له، وعظّمه، واتبعه في صورة مستفيد منه، دلّ على أنه نبيٌّ مثله، يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خصّ من العلوم اللدنيَّة والأسرار النبويَّة بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم، نبيّ بني إسرائيل الكريم.
الثالث: أنّ الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام، وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام، وهذا دليل مستقلٌّ على نبوتَّه، وبرهان ظاهر على عصمته (١) ، لأنَّ الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لأنَّ خاطره ليس بواجب العصمة، إذ يجوز الخطأ عليه بالاتفاق، ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم علماً منه بأنّه إذا بلغ يكفر، ويحمل أبويه على الكفر لشّدة محبتهما له، فيتابعانه عليه، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته دلّ ذلك على نبوته وأنّه مؤيد من الله بعصمته.
(١) ضلَّ أقوام من هذه الأمة إذ ينتكهون الحرمات، ويرتكبون المنهيات، فإذا أنكر عليهم منكر، قالوا: حقيقة الأمر الخافية غير المظهرة البائنة، ويحتجون على ذلك بقصة الخضر، وإفساده للسفينة، وقتله للغلام، وهذا ضلال كبير، يفتح باب الشر ولا يستطاع إغلاقه بعد ذلك، والقول بنبوة الخضر يغلق هذا الباب، ثمَّ ليس لأحد من هذه الأمة أن يخالف الشريعة الإسلامية، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرّمه الله، فمن رام خلاف الشريعة عوقب معاقبة المخالف، وإن زعم ما زعم. ومما ينبغي التنبيه إليه أن موسى صاحب شريعة لم يكن له أن يخالفها، ولذلك أنكر على الخضر قتله الغلام، لأنّه محرم في شريعته، ومن هنا اختار فراقه، والعودة إلى قومه.