ولو بقي الناس قد بسط لهم الرزق لكان الأمر كما قال الله سبحانه وتعالى:(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)(الشورى: ٢٧) ومعلوم أن بقاء الناس على فسوقهم وعتوهم وضلالهم مفسدة عظيمة أعظم من مفسدة الجدب، فإذا جاءت مفسدة الجدب من أجل استقامة الناس على دين الله صار وجود الجدب صلاحاً عظيماً.
ونضرب مثلاً لذلك بإنسان أراد أن يعطي شخصاً ألف درهم، لكن يعلم أنه لو أعطاه ألف درهم لذهب يشتري بها أشياء لا تنفع ويتمرد بها، لكن لو أعطاه كل يوم درهماً أو منعه في بعض الأيام لكان ذلك صلاحاً أو أصلح له. لأنه في هذه الحال - التي لا يعطيه فيها إلا درهماً وربما منعه في بعض الأحيان -، إصلاحه للمعطى أحسن من إصلاح الحال الأولى التي يعطيه فيها ألف درهم ويذهب ينفقها في أشياء ليس فيها نفع أو في أشياء فيها ضرر.
أرأيت لو كان عندك صبي مريض بمرض يشفى منه بالكي، فأنت تكويه رغم أن الكي إساءة، رجاء مصلحة أعظم؛ لأن الكي لا يقتله لكن المرض الذي أصابه ربما يقتله، ولا أظن أن أحداً من الناس يقول: إنك أسأت التصرف؛ بل يقولون: أحسنت التصرف، أما لو كويته من أجل أنك رأيته يلعب في السوق، فإن هذا لا يجوز، لأنه لا يعذب بالنار، ثم إن النار هنا ليست هي السبب في صلاحه، فقد يكوى ولا ينتهي، ولهذا جاز الكي للاستشفاء من المرض، ولم يجز الكي من أجل تأديب الصبي ليصلي أو لئلا يلعب في السوق.