للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأخف لعذابه، وأقل لشره، ولكن لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه، والقدح في حكمته، والحلف على اقتطاع عباده، وصدهم عن عبوديته، كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلظه، فأبقي في الدنيا، وأملى له ليزداد إثماً، على إثم ذلك الذنب، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشرّ في العقوبة، كما كان رأسهم في الشر والكفر. ولما كان مادة كل شر فعنه تنشأ، جوزي في النار مثل فعله، فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ فيه، ثم يسري منه إلى أتباعه عدلاً ظاهراً وحكمة بالغة.

٤- وأبقاه ليتولى المجرمين:

ومن حكم إبقائه إلى يوم الدين أنّه قال في مخاصمته لربّه: (أرأيتك هذا الذَّي كرَّمت عَلَيَّ لئن أخَّرتن إلى يوم القيامة لأحتنكنَّ ذريَّته إلاَّ قليلاً) [الإسراء: ٦٢] . وعلم الله - سبحانه - أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث أبقاه له، وقال له بلسان القدر: هؤلاء أصحابك وأولياؤك، فاجلس في انتظارهم، وكلما مرّ بك واحد منهم فشأنك به، فلو صلح لي ما ملكتك منه، فإني أتولى الصالحين، وهم الذين يصلحون لي، وأنت ولي المجرمين من الذين غنوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي، قال تعالى: (إنَّه ليس له سلطان على الَّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكَّلون - إنَّما سلطانه على الَّذين يتولَّونه والَّذين هم مشركون) [النحل: ٩٩-١٠٠] .

فأما إماتة الأنبياء والمرسلين، فلم يكن ذلك لهوانهم عليه، ولكن ليصلوا إلى محل كرامته، ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم وأتباعهم، وليحيا الرسل بعدهم، يري رسولاً بعد رسول، فإماتتهم أصلح لهم وللأمة، أما هم فلراحتهم من الدنيا، ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور، ولا سيما أنه قد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به.

وأمّا الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة، بل أطاعوهم بعد مماتهم، كما أطاعوهم في حياتهم، وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم، بل يعبدون الله بأمرهم ونهيهم،

<<  <   >  >>