المتنبي وشعر المعري، وهما اللذان ارتدا إلى المعين البدوي ومزجا ما اغترفا منه بالتجربة العميقة والآراء الفلسفية، فكان ما حققاه في هذا المجال تجديدا من داخل المحافظة على الشكل القديم. وكان لهذين الأديبين مكانة سامية في نفوس الأندلسيين في هذا العصر الذي أؤرخه. ومن تصفح الذخيرة لابن بسام استطاع أن يرى مدى اتكاء الشعراء الأندلسيين في توليد المعاني على هذين الشاعرين، فأما معارضة قصائدهما فشيء واضح للعيان. وقد أصبحت معارضة المتنبي محكما للجودة عند الأندلسيين منذ أيام ابن شهيد وظلت كذلك حتى عهود متأخرة، حتى أن ابن شرف طلب في مجلس المأمون ابن ذي النون أن يشير المأمون إلى أي قصيدة شاء من شعر أبي الطيب ليعارضه بقصيدة " تنسي اسمه وتعفي رسمه، فتثاقل ابن ذي النون عن جوابه، علما بضيق جنابه، وإشفاقا من فضيحته وانتشا به " ولكنه بعد إلحاح طلب إليه أن يعارض: " لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي " - وفيها البيت:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق (١) والقصة تروى أيضا بمثل هذا النحو في المشرق، ولا يبعد أن تكون البيئة الأندلسية هي مصدرها فإن مكانة المتنبي في الأندلس لم تكن لتقل عنها في المشرق.
وأشد الشعراء الأندلسيين نسجا على طريقة المتنبي في السياق والبناء مع استقلال غير ضئيل في العناصر الذاتية: أحدهما هو عبد المجيد ابن عبدون الذي عاش في كنف المتوكل صاحب بطليموس، بعد أن حاول الحظوة لدى المعتمد بن عباد، فلم يجد لديه قبولا، فلما انتهى