للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عليه الاستمداد من المشرق في شؤون العلم والأدب والحضارة المادية. فكان التجار ينقلون مواد الحضارة المشرقية إلى الأندلس دون انقطاع. وفي أيام عبد الرحمن الثاني دخل الأندلس نفيس الوطاء وغرائب الأشياء من بغداد وغيرها. وعندما قتل محمد الأمين وانتهب ملكه سيق إلى الأندلس كل نفيس غريب وجوهر نفيس من متاعه (١) . وبقدوم زرياب دخلت الأندلس الموسيقى والأغاني المشرقية كما دخلها كثير من صور الحضارة وتقاليدها والتقت هذه الحضارة مع الثراء ورخص الأسعار والشغف بالعمران فأصبحت قرطبة في هذا العصر تنافس المشرق في روعة عمرانها وفي طمأنينة الحياة في ربوعها، وبلغت الأوج في الاتساع والتحضير أيام عبد الرحمن وابنه الحكم حتى قال ابن حوقل حين زارها في خلافة الناصر (٣٣٧) : " وهي أعظم مدينة بالأندلس، وليس بجميع المغرب لها عندي شبه ولا بالجزيرة والشام ومصر ما يدانيها في كثرة أهل وسعة رقعة وفسحة أسواق ونظافة محال وعمارة مساجد وكثرة حمامات وفنادق " (٢) . واشتهرت بمسجدها الجامع، وبساتينها الكثيرة، وكان لها من الأرباض واحد وعشرون. كما عرفت بكثرة علمائها ومكتباتها ورغبة أهلها في العلوم واقتناء الكتب، وهي بهذا تتميز على سائر المدن الأندلسية.

وأخذت الموجة الحضارية تمتد إلى نواحي الأندلس، ومع أن اكثر المدن الأندلسية كان موجودا قبل دخول العرب، فان اكثر المدن قد اتسع بقدوم المهاجرين واخذ بحظ من الانتعاش الاقتصادي، وبنى المهاجرون بعض المدن كالمرية وغرناطة وكثيرا من القلاع، ولذلك فان دور هذه المدن في الناحية الأدبية كان أقل من دور قرطبة لأن موجة التفاعل الحضاري كانت تسير وئيدة، ولم تتسع بحيث تكون عامة، هذا إلى


(١) المغرب ١: ٤٦.
(٢) ابن حوقل ١: ١١١.

<<  <   >  >>