للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الدنيا، ثم أدركته منيته من ذبحة أصابته، وقبيل وفاته كان المنصور قد نقله من منية المغيرة إلى منية النعمان ليكون قريبا منه (١) .

وفي الحي المسمى منية المغيرة وفي الدار المعروفة بدار ابن النعمان، بين تضاعيف هذا النعيم، ولد احمد بن عبد الملك، وشهد عز أبيه في ظل العامريين، بل فتنة مجد العامريين وثراؤهم وقصورهم، وكان طفلا شديد الحساسية، فانطبعت في ذاكرته منذ الصغر ذكريات لم تنطمس من بعد، نلمس فيها الثورة الخبيئة على أبيه، والتشوف إلى الثراء، وحب الظهور، واستشعار السيادة في ذلك الدور المبكر من حياته.

فقد ظل يذكر كيف دخل وهو في الخامسة من عمره على المنصور ابن أبي عامر، فرأى بين يديه تفاحة كبيرة، فأخذ يتأملها تأمل الشره، فأمره المنصور ان يأخذها ويأكلها، فلما اطبق على بعضها فمه لم يستطع ان يقطع منها شيئا، بل إن يده ضاقت عنها، فتناولها المنصور منه، وأخذ يقطع له بفمه ويطعمه، وكأن هذا العطف كان يذكره بانه حرم شيئا كثيرا من عطف أبيه الذي كان مشغولا بمجالسه وبأمور الدولة اكثر من النظر إلى أبنائه. ثم سلمه المنصور إلى من حمله إلى بيت المنصور، حيث السيدة زوجه، ولم ينس الطفل احمد ما استقبل به من حفاوة من النساء، وكيف غمرنه بالهدايا، وقدمت له زوج لمنصور ألف دينار عن نفسها وثلاثة آلاف عن زوجها، وظن الطفل انه حر التصرف فيما اهدي إليه لأنه يملكه، ولكنه ما كاد يعود إلى البيت حتى استولى ابوه على كل شيء، فوزع منه ما وزع، واستبقى منه ما شاء. وتلك حادثة أثرت في نفسية احمد تأثيرا عميقا يشبه الحقد، ذلك انه كان يرجو ان يشبع رغبته من تلك الالوف، لا بشراء اللعب فحسب، " والخيل إذ ذاك نخب من قصب، والدرق قشور من خشب " (٢) بل ليفرق ما


(١) الصلة: ٣٣٩
(٢) الذخيرة ١/١: ١٦٥

<<  <   >  >>