للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يريد تفريقه من ذلك المال على الخدم والجواري وأطفال الحي. وقد نقل إلى المنصور ان هذا الطفل غضب مما فعله ابوه، ولعله بكى لديه، فمنحه خمسمائة دينار واقسم على ان يبيح له التصرف التام بها، فبددها على لعبة كثيرا منها على لذاته.

وحادثة ثانية كانت أعمق أثرا من الأولى، وهو يقول إنها كانت أفدح نازلة نزلت بصبوته (١) ، ذلك أن أباه حين نسك، نسي حق الطفولة في اللهو، فطرح ذيل نسكه وتقشفه على أبنائه، وعمد إلى ابنه احمد وكان يومئذ في الثامنة، فحلق لمته، وانتزع ما عليه من ثياب الخز والوشي، وألبسه بدلا منها ثيابا بسيطة، فتلقى الطفل هذه بألم شديد، ومر به الوزير ابن مسلمة ذات مرة، فسأله عن حاله، فأجابه بالنشيج والعجيج، - مظهر من مظاهر الحساسية الشديدة والنشأة المدللة - فما كان من الوزير إلا أن حكى الأمر إلى المظفر ابن المنصور - وكان المنصور غائبا - فاستقدم الغلام إليه وألبسه ثياب الحرير، وحمله على فرس بسرجه ولجامه، وأعطاه الف دينار، وعقد له؟ عقدا صوريا - على الشرطة، فأرضى في نفسه الصغيرة تشوفها إلى المراكز العالية الكبيرة، وتطلعها إلى جديد من الثياب والوافر من الأموال.

من اجل ذلك نكبة قرطبة حادثا جللا بالنسبة له لأنها هوت بالمجد العامري، وقضت على الأيام السعيدة في ظل العامريين، وكانت نشأة أبي عامر لا تقويه على الكفاح والمغامرة من جديد، لنعومتها أولا، ولفرقه الشديد من تقلبات الأيام في المهاجرة، فبقي في قرطبة ينظر إلى معاهدها في أسى، ويبكي قصورها ومتنزهاتها، ويعلل عجزه عن مفارقتها بحبه للوطن، بحبه لقرطبة وان كانت عجوزا متغيرة الريح ساقطة الأسنان، زانية بالرجال " طاب له الموت على هواها " (٢) .


(١) انظر الذخيرة ١/١: ١٦٤
(٢) الذخيرة ١/١: ١٧٥

<<  <   >  >>