للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المتأدبون هنالك يضعون خطأ فاصلا بين طريقتين في الشعر: طريقة العرب وطريقة المحدثين، فيقولون مثلا أن فلانا الشاعر كان اكثر أشعاره على مذاهب العرب (١) ، وكانوا هم أميل إلى تفضيل ما جرى على مثال الشعر المحدث، حتى أن الرياحي الشاعر (- ٣٥٨) حين نظم قصيدة في الرثاء، وبناها على مذاهب العرب، وخرج فيها على مذاهب المحدثين، لم يرضها العامة ولم يجد من يعجب بها إلا أبا علي القالي (٢) ومن يذهب في طريقته.

فعلى أيدي هؤلاء المؤدبين تم، أذن، شيء من تبلور الذوق الأندلسي، بقبول ما يقبل ورفض ما يرفض، وفي مجالس تدريسهم تكونت نواة حركة نقدية ساذجة، فهم الذين كانوا يشرحون الشعر لطلبتهم ويتكلمون في معانيه ويقربونها ويضربون الأمثال فيها، ويتتبعون ما فيها من المآخذ اللغوية والنحوية، ومما يلفت النظر انهم كانوا يتدارسون شعر شعرائهم كما يتدارسون شعر المشارقة. فكان عباس بن ناصح، وهو أحد هؤلاء المؤدبين، ومذهبه في شعره مذهب العرب الأول ي أشعارهم، كما ورد قرطبة، جلس في جامعها يقرأ على الطلبة ما كان نظمه من شعر. ووفد مرة على قرطبة فجاء أدباؤها للأخذ عنه فمرت عليهم قصيدته:

لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم حتى انتهى إلى قوله:

تجاف عن الدنيا فما لمعجز ... ولا حازم إلا الذي خط بالقلم فاعترضه يحبى الغزال وقال: وما الذي يصنع مفعل مع فاعل. قال: فكيف تقول أنت، قال: تجاف عن الدنيا فليس لعاجز، فاستحسن عباس ذلك منه وقال " والله لقد طلبها عمك ليالي فما وجدها " (٣) .


(١) طبقات الزبيدي: ٣٣١.
(٢) المصدر نفسه: ٣٣٩.
(٣) المغرب ١: ٣٢٤.

<<  <   >  >>