نصر بن فتيان بن مطهر النهرواني أبو الفتح المعروف بابن المني: رحلت إليه فوجدت مسجده بالفقهاء والقراء معموراً، وكل فقيه عنده من فضله وإفضاله مغموراً، فأنخت راحلتي بربعه، وحططت زاملة بغيتي على شرعه، فوجدت الفضل الغزير والدين القويم المنير، والفخر المستطير، والعالم الخبير، فتلقاني بصدر بالأنوار قد شرح، ومنطق بالأذكار قد ذكر ومدح، وبباب إلى كل باب من الخيرات قد شرع وفتح، فتح الله عليه. حفظ القرآن العظيم وهو في حداثة من سنه، ولاحت عليه أعلام المشيخة، فرجح منه على كل فن بفضل الله ومنه.
قال لي المهذب بن قيداس: كنا نسمي شيخك شيخ صبي يعني في صباه لعقله ووقاره وتركه للعب، ثم قال: لم ينقل عنه أنه لعب ولا لها، ولا طرق باب طرب، ولا مشى إلى لذة ومشتهى.
حدثني شيخنا الإمام ناصح الدين ابن المني قال: حصل لي من ميراث والدي عشرون ديناراً، فاشتريت بها شيئاً وبعته فأربحت، فخفت أن تحلو لي التجارة فأشتغل بها، فنويت الحج فحججت، وتجردت للعلم، فسمعت درس الشيخ أبي بكر الدينوري صاحب الشيخ أبي الخطاب الكلوذاني، قلت، فتفقه به، ومال الفقهاء من أصحاب شيخه إلى الاشتغال عليه. ودرس بعد موت شيخه.
قال لي: تقدمت في زمن أقوام ما كنت أصلح أن أقدم مداسهم، وقال لي: رحمه الله: ما أذكر أحداً قرأ عليّ القرآن إلا حفظه، ولا أسمع درس الفقه إلا انتفع. ثم قال: هذا حظي من الدنيا.
وأفتى ودرس نحواً من سبعين سنة، ما تزوج ولا تسرى، ولا ركب بغلة ولا فرساً، ولا ملك مملوكاً، ولا لبس الثياب الفاخرة إلا لباس التقوى. وكان أكثر طعامه يشرب له في قدح ماء الباقلا، وكان إذا فتح عليه بشيء فرقه بين أصحابه. وكان لا يتكلم في الأصول، ويكره من يتكلم فيه، سليم الاعتقاد صحيح الانتقاد