النساك، ولباس المنقطعين للتعبد، وعمدة الطراز الأول من السلف. فإن قلت: وهاهو في جزيرتك زي رهبان البيع وأرباب الخانات، وهم أضعف الناس أحلاماً وأدناهم طينة، والقائلون بأن الله ثلاثة - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فجملة القول في هذا المعنى أنه لم يحجب الله تعالى وجوه المعاش، التي يصحبها جميل النظر، ويلوح عليها سيما البركة عن جنس من خلفه دون جنس، ولا أبداها إلى صنف وحجبها عن صنف، بل ألهم الكل إلى رشده، وعرفه نهج معرفته، الأشكال والمراتب، واختلفت النحل والمذاهب. كما جعلها لقدرته في سائر الحيوان من الطائر والداخر بين الآنس والشارد في صحصح القفر، كل ختلف مسعاه لنفسه، ووجه تدبيره لشأنه، على ما يسر ما تعود وألهم إليه. والمعلمون نظروا إلى ضعف سبب اكتسابهم، وفكروا في تيسر ما تعود عليهم صناعتهم، فأخذوا بالأقوى والأرفق، واعتمدوا على الأرخص والأوفق، ثم علموا أنهم إن تحاملوا على أنفسهم، وافترشوا ما يزينهم لم يلبث أحدهم أن يقوم عن مجلسه لبعض الأمر أو لقضاء الفرض، فتقوم حرب لعب الصبيان على ساق، وتبلغ بتمزيق ذلك الذي افترشه وغالى فيه بالأيدي والأقدام، والترامي والأزدحام، ما لا تبلغ أنياب كلاب القنص في إهاب العقيرة، فيعود ما يسخن العين، ويوجب الرين. وهذا النوع الذي أنسوا إلى خيره، وآثروه على غيره، لو أقامه الصبيان مقام الطبل، وجعلوه هدفاً للنبل، لم يكن أثرهم فيه إلا أثر الندى في صم الصفا.
وفي اختلاف ألوانه تذكرة للناظر إليه، وعظة لمجيل بصره فيه، فما كان منه أسود ذكر بسواد الشباب، وقميص الفتوة، وطيب زمن الحداثة، فأبكى لفراقه، وقلة المتعة به؛ وما كان أبيض ذكر ببياض المشيب، ونذير الرحلة ورائد الأجل، فجر إلى العبادة وبعث على صالح العمل.
هذه - أبقاك الله - خصال لو قسمت على كل مستعمل لهذا الشأن من رخيص وغال، ودون وعال، لأربت على الكفالة، وجازت مدى الغاية، فعها من ممليها، ودع القوس لباريها، وأسلم أعنة الجياد إلى مجريها. لم آت في معناها بظلمة تحتاج إلى صباحك، ولا جئت بلفظ ذي تهمة يضطر إلى إيضاحك. فإن كنت قد لبست شكة المعارضة، وأوترت قسي المناقضة، ورشت سهام المناقلة، فإلى غيري فاكشف صفحتك