الأول: أن الشريعة راعت كل مصالح الناس بنصوصها وبما أرشدت إليه من القياس، والشارع لم يترك الناس سدى، ولم يهمل أية مصلحة من غير إرشاد إلى التشريع لها، فلا مصلحة إلا ولها شاهد من الشارع باعتبارها، والمصلحة التي لا شاهد من الشارع باعتبارها ليست في الحقيقة مصلحة، وما هي إلا مصلحة وهمية ولا يصح بناء التشريع عليها.
والثاني: أن التشريع بناء على مطلق المصلحة فيه فتح باب لأهواء ذوي الأهواء، من الولاة والأمراء ورجال الإفتاء، فبعض هؤلاء قد يغلب عليهم الهوى والغرض فيتخيلون المفاسد مصالح، والمصالح أمور تقديرية تختلف باختلاف الآراء والبيئات ففتح باب التشريع لمطلق المصلحة فتح باب الشر.
والظاهر لي: هو ترجيح بناء التشريع على المصلحة المرسلة، لأنه إذا لم يفتح هذا الباب جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات. ومن قال: إن كل جزئية من جزئيات مصالح الناس، في أي زمن وفي أي بيئة قد راعاها الشارع، وشرع بنصوصه ومبادئه العامة ما يشهد لها ويلائمها، فقوله لا يؤيده الواقع، فإنه مما لا ريب فيه أن بعض المصالح التي تجد لا يظهر شاهد شرعي على اعتبارها ذاتها.
ومن خاف من العبث والظلم واتباع الهوى باسم المصلحة المطلقة، يدفع خوفه بأن المصلحة المطلقة لا يبني عليها تشريع إلاّ إذا توافرت فيها الشروط الثلاثة التي بينّاها، وهي أن تكون مصلحة عامة حقيقة لا تخالف نصا شرعياً ولا مبدأ شرعياً.
قال ابن القيم:"من المسلمين من فرطوا في رعاية المصلحة المرسلة، فجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق الحق والعدل، ومنهم من أفرطوا فسوغوا من ينافي شرع الله وأحدثوا شراً طويلاً وفساداً عريضا".