إذا كتمتْ زيارتَها ... أذاعَ الطِّيبُ ما كتمتْ
فأنْطقَ ألسُنَ الواشِي ... نَ لا كانتْ ولا نطقتْ
وأجود من كلِّ ما ذكرنا قول البعيث:
إذا هيَ زارتْ بعدَ شحطٍ منَ النَّوَى ... وشَى نشرُها لا مسكُها وعبيرُها
هذا جعل نشرها أذكى من المسك والعبير وهذا النهاية، وما أقربه من قول امرئ القيس وإن لم يكن هذا المعنى بعينه:
ألمْ ترَ أنِّي كلَّما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طيباً وإن لمْ تطيَّبِ
وقال ابن الدُّمَيْنة:
أسألتَ مغنَى دِمنةٍ وطُلولاَ ... جرَّتْ بها عصُفُ الرِّياحِ ذُيولا
قطعاً تموجُ على المِتانِ بحاصبٍ ... موجَ الخَبابِ وعاصفاً منخُولا
بالأبرَقَيْنِ تبينُ عن عَرصاتها ... رسماً كآيات الكِتاب مُحيلا
فثنَى عليَّ صبابةً عِزمانُها ... من بعد ما همَّ الفؤادُ ذهُولا
ولقد رأيتُ بها أوانسَ كالدُّمَى ... يرفُلْنَ من سرِقِ الحرير فضُولا
ثمَّ انتحينَ ولم يقلنَ ولَو بِنا ... أخلَيْنَ إلاَّ جائزاً وجميلاَ
ظلَّ الحديثُ كما تَساقَى رِفقةٌ ... صِرفاً مُشعشعةَ الزُّجاج شَمولا
شُمُساً يدعنَ ذوي الجلادةِ كلَّهم ... دنِفَ الفؤادِ وما يدِينَ قتيلا
ويرَيْنَ قتلَ المسلمين بلا دمٍ ... حِلاًّ لهنَّ وما طلبنَ ذُحولا
طرقتْ أُميمةُ هاجعاً لعبتْ به ... قُلُصٌ تعسَّفُ سبسباً مجهولا
أنَّى اهتديتِ ولم يدعْ نائِي الهوَى ... والكاشحون إلى اللّقاءِ سبيلا
أمَّا قوله: " ولقد رأيت بها أوانس " البيت، فإنَّه وصفهم بالجدَة واليسار وأنهنَّ لا يفتكرن في الثياب إذا سحبنها، ومثله قول ابن المعتزّ:
وقَصريَّة الأطرافِ حُمر بنانُها ... تُهينُ ثيابَ الخزِّ جرّاً وتسحابا
وقد استقصينا الكلام على هذا البيت وأتينا بنظائره في كتابنا المسوّم في شعر ابن المعتزّ والتنبيه على معانيه.
وقال ابن الدُّمَيْنة:
متَى الدَّينُ يا أُمَّ العلاءِ فقد أنَى ... أناهُ مؤدًى للغريمِ المُطالبِ
لقد طالَ ما اسْتَنْسَأْتِ إمَّا لتظلِمِي ... وإمَّا لأرضَى بالقليلِ المقاربِ
فكيف عزاءُ القلب عنها وحبُّها ... يزيدُ إذا ما ماتَ وصلُ الكواعبِ
وله أيضاً:
خليليَّ مُرّا مُصعِدَين فسلِّما ... على نسوةٍ دون الأراكِ مِلاحِ
فإنْ أنتما كلَّمتماهنَّ فاشْكوا ... ضنى بدنٍ يزدادُ كلَّ صباحِ
لقد تركتْني ما أعي لمحدِّثٍ ... حديثاً ولا أروى ببرد قَراحِ
وله أيضاً:
أنخْنا قَلوصيْنا وأرسلتُ صاحبي ... على الهوْلِ يخفى مرَّةً ويزولُ
فلمّا أتاها قال ويحك نوِّلي ... محبّاً له قلبٌ عليكِ عليلُ
فقالتْ يمينَ الله لو أنَّ نفسه ... على الكفِّ من وجدٍ عليّ تسيلُ
لأنْفعَهُ شلَّتْ إذا نفعْتُه ... بشيءٍ وقد حدِّثتُ أين يميلُ
وله:
وإنِّي لفي شكٍّ وما من عمايةٍ ... من الشكِّ إلاَّ سوف تُجْلى همومُها
يهيجُ عليَّ الشَّوقَ نوحُ حمامةٍ ... مُطوَّقةٍ يُردي المحبَّ نئيمُها
وإن لم يهجْهُ هيَّجتْهُ مُخيلةٌ ... يراها بأعلام الحمى من يشيمها
مضتْ حقبةٌ قد شطَّتِ الدَّار غَربةً ... بظمياء تبدو بالنَّهارِ نجومُها
فوالله لا أدري إذا ما حمدتُها ... علامَ ولا في أيِّ ذنبٍ ألومُها
نأتْ ونأيْنا ثمَّ لم ندْرِ إذ نأتْ ... أنقطَعُ أسبابَ الهوَى أم نُديمُها
وله:
أرى غدْرُ ليلى يا خليليَّ حاملي ... على غدْرةٍ ما كان قلبي يريدُها
لقد غدرتْ إنّا إلى الله بعدما ... وفيْنا وعُقبى كلّ يومٍ نريدُها
له:
فلو كنتُ أدري أنَّ ما كان كائنٌ ... حذِرْتُكِ أيّامَ الفؤادُ سليمُ
ولكنْ حسبْتُ الهجرَ شيئاً أطيقُه ... ولم أدْرِ أنّ الخطبَ فيه عظيمُ
أخا الجِنِّ بلَّغْها السَّلامَ فإنَّني ... من الإنسِ مزوَرُّ الجناح كتومُ
أخا الجنّ لا ندْري إذا لم يُدِمْ لنا ... خليلٌ صفاءَ الوُدِّ كيف نُديمُ
ولا كيف بالهجران والقلبُ آلِفٌ ... ولا كيف يرضى بالهوان كريمُ
وله:
خليليَّ زورا بي أميمةَ فاجْلوا ... بها بصري أو غمرةً من فؤاديا
فإنْ لا تزورا بي أميمة تعْلَما ... غداةَ غدٍ أن لا أخا لكما بِيا
ألا يا قطاتَي سدرة الماءِ بلّغا ... أميمة عنّي واحْفَظا قيلَها لِيا
وله:
إلى الله أشكو لا إلى النَّاس أنَّني ... قريبٌ وأنِّي حاضرٌ لا أزورُها
وأنّي إذا ما جئتُ بيتكِ أرْشقَتْ ... إليّ بصيراتُ العيون وعورُها
وله:
وواضحةِ المقلَّدِ أمِّ خِشْفٍ ... تذكّرُني سُليمى مُقلتاها
إذا نظرتْ عرفتُ النَّحرَ منها ... وعينَيْها ولم أعرف سواها
صددْتُ بصُحبتي أن يذعرُها ... بمحْنيَةٍ ترودُ إلى طلاها
كرِهْنا أنْ نروِّعَها وقلنا ... أشلَّ الله كفّي من رماها
وله:
وبيضٍ كالظِّباء منعَّماتٍ ... يصدْنَكَ جهْرةً غيرَ اغْترارِ
إذا حاولنَني فأصدْنَ قلبي ... جعلْتُ الوُدَّ منهنَّ انتصاري
وصرَّفْتُ الحديثَ لهنَّ حتَّى ... أُصافي وُدَّهنَّ على اقْتدارِ
فإنْ تكنِ الحوادثُ وقَّرَتني ... وعدَّى الشَّيبُ عن طلب الجواري
فقد عاودْتُهنَّ ثيابَ لهوٍ ... لبسناهُنَّ في المحرومِ عاري
لياليَ لا يغيِّرُ حبَّ ليلى ... غنائي إنْ غنيتْ ولا افْتِقاري
وله:
وأعرِضُ عن أمّ البخيل وأتَّقي ... عيونَ العِدى حتَّى كأنّي أُهينُها
وفي القلبِ من أمّ البخيل ضمانةٌ ... إذا ذُكرتْ كان الجبينُ يُبينُها
أتتْنا بريَّاها جَنوبٌ مريضةٌ ... لها برْدُ أنفاس الرِّياح ولينُها
من المُشرَبات المُزنَ هيفٌ كأنّها ... بمسكٍ وبردِ وهيَ لُدْنٌ متونُها
تطلَّعُ ملءَ الغورِ غوْرَيْ تِهامةٍ ... بريحٍ ذكيّ المسك فُضَّ حصينُها
وله أيضاً:
أعَيْنيَّ ما لي لا نأمْتُ ببلدة ... من الأرضِ إلاَّ كان دمعي قِراكُما
أعينيَّ أغْنى أمّ ذي الطَّوقِ عنكما ... بنونَ ومالٌ فانْظرا ما غِناكما
ألا قد أرى والله أن قد قذيتُما ... بمن لا يبالي أن يطولَ قذاكُما
أعينيَّ مهْلاً أجْملا الصَّبرَ تحظيا ... فقد خِفتُ من طول البكاء عماكما
وله:
دعوتُ إلهَ النَّاس عشرين حجّةً ... نهاراً وليلاً في الجميع وخاليا
بأنْ يبتلي ليلى بمثلِ بليَّتي ... فيُنْصفني منها لتعلمَ حاليا
فلم يستجبْ لي الله فيها ولم يُفِقْ ... هوايَ ولكنْ زيدَ حتَّى برانيا
فيا ربِّ حبِّبْني إليها وأشْفني ... بها أو أرِحْ ممّا يُقاسي فؤاديا
وله:
عفا الله عن ليلى وإنْ سفكت دمي ... فإنّي وإن لم تجْزِني غيرُ عاتبِ
عليها ولا مبُدٍ لليلى شكيَّةً ... وقد يشتكي المُشكَى إلى كلِّ صاحبِ
يقولون تُبْ من حبّ ليلى وودِّها ... وما أنا من حبّي لليلى بتائبِ
وله:
وإنّي لأرْضى منكِ يا ليلُ بالذي ... لوَ ابْصَره الواشي لقرَّتْ بلابلُهْ
بلا وبأن لا أستطيع وبالمُنى ... وبالوعْدِ والتَّسويف قد ملَّ آملُهْ
وبالنَّظرة العَجْلى وبالحول تنقَضي ... أواخرهُ لا نلتقي وأوائلُهْ
وله:
يقولون ليلى بالمغيبِ أمينةٌ ... له وهوَ راعٍ سرّها وأمينُها
فإنْ تكُ ليلى اسْتودعتني أمانةً ... فلا وأبي ليلى إذاً لا أخونُها
أَأُرضي بليلى الكاشحينَ وأبْتغي ... كرامةَ أعدائي بها وأُهينُها
معاذةَ وجهِ الله أن أُشمتَ العِدى ... بليلى وإنْ لم تجزِني ما أدينُها
وله:
إلى أيّ حينٍ أنتَ ضاربُ غمرةٍ ... من الجهلِ لا يُسليكَ نأيٌ ولا قُرْبُ
تَهيمُ بليلى لا نوالٌ تُنيلُه ... ولا راحةٌ ممَّن تذكُّرُه نصْبُ
هواها خبالٌ عاد مكنونُه جَوًى ... ومرْعاهُ باغي الخير من وصلها جدْبُ
وهجرُ سُليمى مستَبينُ طريقُه ... ومسلكُه أمرٌ إذا رُمتَهُ صعْبُ
وعائبةٍ سلمى إلينا وما لنا ... إليها سوى الوصلِ الَّذي بيننا ذنْبُ
ولا تستوي سلمى ولا من يعيبُها ... إلينا كما لا يستوي الملْحُ والعذْبُ
وله:
أبلغْ سلامةَ أنّي لستُ ناسيها ... ولا مطيعٌ بظهر الغيب واشيها
يا لَيتنا فرد وحْشٍ نعيشُ معاً ... نَرْعى المِتانَ ونخْفى في فيافيها
وليتَ كُدْرَ القطا حلَّقنَ بي وبها ... دون السَّماءِ فنخْفى في خوافيها
قد حالَ دونَ سُليمى معشر قزَمٍ ... وهم على ذاك دوني من مواليها
أكثرتُ من ليتَني لو كان ينفعُني ... ومن مُنى النَّفسِ لو تُعطى أمانيها
إنَّ الفؤادَ ليَهوى أنْ أُناقِلَها ... رجْعَ الكلامِ وإن عارتْ أدانيها
ودونها قومُ سوءٍ ينذرون دمي ... فالموتُ إتيانُها والموتُ هجْريها
يا قاتلَ الله سلمى كيف تُعْجبني ... وأخْبِرُ النَّاس أنّي لا أُباليها
إنّي ليأخذُني من حبّها عَرَصٌ ... عند الصَّلاةِ فأنسى أن أصلِّيها
لنَظْرةٌ من سُليمى اليومَ واحدةٌ ... أشهى إليَّ من الدُّنيا بما فيها
أما قوله " يا ليتنا فردا وحش " البيتين، فهو معنى قد اشترك فيه عدّة