للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا ولم يرد اعمله - عليه الصلاة والسلام - تعوذ من العمى١.

ثم اختلف العلماء الأعلام في إن السمع أفضل أو البصر؟.

والأظهر الأول٢ بدليل ما جاء في القرآن الكريم من تقديم السمع


١ قال الإمام الخطابي- رحمه الله - في كنابه شأن الدعاء ص ١٧٢: لم يستعذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحمى، والصداع، والرمد ونحوها، وذلك أن هذه الأمور - أي الصمم، والبكم، والجنون"، والجذام، والبرص - آفات، وعاهات تفسد الخلقة، وتغير الصورة، وتورث الشين، وتوثر في العقل، والمحنة بها تعظم، والبلاء فيها يجهد ويشتد.
٢ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى ٩/٣١٥: إن العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء، وهو أنها إنما يرى صاجها بها الأشياء الحاضرة، والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن، فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه، وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية، والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان: فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذ كان العلم هو غذاءه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حجبه له، توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه، حتى أن من فقد شيئا من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه، فالأصم لا يعلم ما في الكلام من العلم، والضرير لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة، وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب لو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب فإنه لا يعقل شيئا، فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى أفي سورة الحج الآية ٤٦،: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها} حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق، فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة، وحكمة معقولة من عواقب الأمور لا مجال لنظر العين فيها".
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه: مفتاح دار السعادة ١/١٠٥ في سياق كلامه لبيان حجة من قال بتفضيل السمع، قال:
١- إن السمع به تنال سعادة الدنيا والآخرة، فإنها إنما تحصل بمتابعة الرسل، وقبول رسالاتهم، وبالسمع عرف ذلك، فإن من لا سمع له لا يعلم ما جاؤا به.
٢- إن السمع يدرك به أجل شيء، وأفضله، وهو كلام الله تعالى، الذي فضله على الكلام، كفضل الله على خلقه.
٣- إن العلوم إنما تنال بالتفاهم والتخاطب، ولا، يحصل ذلك إلا بالسمع.
٤- إن مدركه أعم من مدرك البصر، فإنه يدرك الكليات والجزئيات، والشاهد والغائب، والموجود والمعدوم، والبصر لا يدرك إلا بعض المشاهدات، والسمع يسمع كل علم، فأين أحدهما من الآخر، ولو فرضنا شخصين أحدهما يسمع كلام الرسول ولا يرى شخصه، والآخر بصير يراه ولا يسمع كلامه لصممه هل كانا سواء؟.
٥- إن فاقد البصر إنما يفقد إدراك بعض الأمور الجزئية المشاهدة، ويمكنه معرفتها بالصفة ولو تقريبا، وأما فاقد السمع فالذي فاته من العلم لا يمكن حصوله بحاسة البصر ولو قريبا.
٦- إن ذم الله تعالى للكفار بعدم السمع في القرآن، أكثر من ذمه لهم بعدم البصر، بل إنما يذمهم بعدم البصير تبغا لعدم العقل والسمع.
٧- إن الذي يورده السمع على القلب من العلوم، لا يلحقه فيه كلال ولا سآمة ولا تعب، مع كثرته وعظمه، والذي يورده البصر عليه يلحقه فيه الكلال والضعف والنقص، وربما خشي صاحبه على ذهابه مع قلته ونزارته بالنسبة إلى السمع".
وقال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت ١٣٩٣هـ) في تفسيره، التحرير والتنوير: ١/ ٢٥٨: "وفي تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن الكريم، دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر، فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدم، وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه، بخلاف البصر، فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة".

<<  <   >  >>