للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأخرجت من العدم عالما مؤلفا من الحقائق المائلة لا من الأشباح الهائمة في الظلام.

ولم تكن الدولة التي تشكلت على هذه الصورة النقية كممالك الأباطرة التي سريعا ما تنحل وتزول، بل كانت طليعة مدنية جديدة تسطع منها الأنوار وتتلألأ وتبقى حية مضيئة حتى لو زال سلطانها الحربي ونفوذها السياسي، وذلك لأن العرب قهروا ممالك العالم باسم الدعوة لتوحيد الله ففتحوها فتحا روحيا استمر في التوسع والانتشار بعد توقف الانتصارات المادية في الوقائع والحروب، ووجهت القلوب والوجوه والألسنة لله وحده في النيات وأعمال الجوارح في كل عبادة ولا سيما في الصلاة والحج والدعاء من غير لجوء إلى وساطة نجوم أو كهان أو أصنام، ومن غير استعانة بأبدان أو أرواح، ومن غير مذلة بركوع أو سجود أو تقديم قرابين.

وأمكن للقبائل العربية بفضل التوحيد والوحدة أن تقيم في أقل من خمسين سنة دولة حلي جيدها بقلائد من أعجب المفاخر وآيات الإعجاز.

ولكن سرعان ما انحرف السلوك وأعوج الطريق ورجعت الجاهلية العربية والجاهلية العالمية فزحفت على اللجة الإسلامية تيارات من الجاهليتين ولم تدع قطرا من أقطار المسلمين إلا أغرقته إغراقا، ورجع إيمان القلب من حب وذل وخوف ورجاء وتعظيم وإنابة لغير الله، وصار عمل اللسان من ثناء وحمد ودعاء واستغاثة واستعاذة وحلف معقودا بغيره، واتجهت الأبدان في الصيام والصلاة وأموال الصدقات والنذور والذبائح وحبوس الأوقاف والهبات إلى غير وجهه، وأصبحت القدرة الخارقة مأمولة في التمائم والصيغ السحرية وأجواف الظلمات والكهوف وشياطين الزار١ مما أوجب هلاكا للناس أكثر مما فعلته الأوبئة وقذائف الحروب.


١ - انظر شرح القصيدة النونية: ٥٠٨.

<<  <   >  >>