للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانى هذا ولا يقاربه، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد.

فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحاً، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التى خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون. فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استشفى به، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله، بل على نقل ما هو دونه.

وحينئذ، فلا يخلو، إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه فى غير تلك البقعة، أولا يكون، فإن كان أفضل، فكيف خفى علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علما وعملاً؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين فى كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعاً وشرعاً.

فتعين القسم الآخر. وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد. ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله البتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله، ولم ينزل بها سلطاناً.

وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير.

فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال: "صليت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعلَ رَبُّكَ بِأَصْحابَ الْفِيلِ} [الفيل: ١] و {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: ١] .

ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: "أين يذهب هؤلاء؟ "، فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فهم يصلون فيه، فقال:

<<  <  ج: ص:  >  >>