فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض.
فتبين أن الشفاعة التى نفاها الله سبحانه فى القرآن هى هذه الشفاعة الشركية التى يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناءً على أنها هى المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة فى الحقيقة هى منه، فإنه الذى أذن، والذى قبل، والذى رضى عن المشفوع والذى وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله.
فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذى يتقرب إليه وحده، ويطلب رجاءه، ويتباعد من سخطه هو الذى يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه.
قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ؟} ، إلى قوله:{قُلْ للهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً}[الزمر: ٤٣-٤٤] ، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أتُنَبئُونَ اللهَ بمَا لا يعْلمُ فى السَّموَاتِ وَلا فِى الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[يونس: ١٨] ، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم، وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع.
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقاً، ولا أمراً، ولا إذناً، بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب التى تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده فى أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه