للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بهذا الوجه إلى الوجه الأول، وهذا الوجه يقتضى التوكل على الله تعالى والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضا: محبته وعبادته، لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول.

ونظير ذلك: من ينزل به بلاء عظيم، أو فاقة شديدة، أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه، حتى فتح له من لذيذ مناجاته وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه ما هو أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه، ويشتاق إليه، وفى نحو ذلك قال القائل:

جَزَى اللهُ يَوْمَ الرَّوْعِ خَيْرًا، فَإِنَّه ... أَرَانَا عَلَى عِلاتِهِ أمَّ ثَابِتِ

أَرَانَا مَصُونَاتِ اْلحِجابِ، وَلَمْ نَكُنْ ... نَرَاهنَّ إِلا عِنْدَ نَعْتِ النَّوَاعِتِ

الوجه السادس: أن تعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته، فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك، ولو أحب سوى الله ما أحب، فلا بد أن يسلبه ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه، إما فى الدنيا وإما فى الآخرة، والغالب أنه يعذب به فى الدارين، قال تعالى:

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفقُونَهَا فى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: ٣٤- ٣٥] .

وقال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُم كَافِرُونَ} [التوبة: ٥٥] .

ولم يصب من قال: إن الآية على التقديم والتأخير، كالجرجانى، حيث قال: ينتظم قوله {فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بعد فصل آخر ليس بموضعه، على تأويل {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: ٥٥] وهذا القول يروى عن ابن عباس رضى الله عنهما. وهو منقطع، واختاره قتادة وجماعة، وكأنهم لما أشكل عليهم وجه تعذيبهم بالأموال والأولاد فى الدنيا، وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك، فروا إلى التقديم والتأخير.

وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها فاختلفوا فى هذا التعذيب، فقال الحسن البصرى: يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق فى الجهاد، واختاره ابن جرير، وأوضحه. فقال: العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يؤخذ منه ذلك،

<<  <  ج: ص:  >  >>