لما كان الإنسان؛ بل وكل حى متحرك بالإرادة، لا ينفك عن علم وإرادة وعمل بتلك الإرادة، وله مراد مطلوب، وطريق وسبب يوصل إليه، معين عليه، وتارة يكون السبب منه، وتارة من خارج منفصل عنه، وتارة منه ومن الخارج، فصار الحى مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى حصول مراده.
والمراد قسمان: أحدهما: ما هو مراد لنفسه. والثانى: ما هو مراد لغيره.
والمستعان قسمان؛ أحدهما: ما هو مستعان بنفسه، والثانى: ما هو تبع له وآلة.
فهذه أربعة أمور: مراد لنفسه، ومراد لغيره، ومستعان بنفسه، ومستعان بكونه آلة وتبعا للمستعان بنفسه.
فلا بد للقلب من مطلوب يطمئن إليه، وينتهى إليه محبته. ولا بد له من شىء يتوصل به؛ ويستعين به فى حصول مطلوبه، والمستعان مدعو ومسئول، والعبادة والاستعانة كثيرا ما يتلازمان، فمن اعتمد القلب عليه فى رزقه ونصره ومتفعته ونفعه خضع له، وذل له، وانقاد له وأحبه من هذه الجهة، وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به، ويستعين بغيره عليه كمن أحب مالا أو منصبا أو امرأة، فإن علم أن محبوبه قادر على تحصيل غرضه استعان به، فاجتمع له محبته والاستعانة به.
فالأقسام أربعة: محبوب لنفسه وذاته، مستعان بنفسه. فهذا أعلى الأقسام، وليس ذلك إلا لله وحده. وكل ما سواه فإنما ينبغى أن يحب تبعا لمحبته، ويستعان به لكونه آلة وسببا.
الثانى: محبوب لغيره ومستعان به أيضاً، كالمحبوب الذى هو قادر على تحصيل غرض محبه
الثالث: محبوب مستعان عليه بغيره
الرابع: مستعان به غير محبوب فى نفسه.
فإذا عرف ذلك تبين مَن أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة، وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته، وإلا كانت مضرة على العبد، ومفسدتها أعظم من مصلحتها. والله المستعان وعليه التكلان.