وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه فى مخالفة الهوى، وذلك أصعب شىء على النفس وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره: كمن دخل فى طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلى بهم أسوة. وهذه حال أكثر الخلق، وهى التى أهلكتهم، فالصبر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فتفرد العبد فى طريق طلبه دليل على صدق طلبه.
ولقد سُئِلَ إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب عنه. فقيل له: إن أخاك أحمد ابن حنبل يقول فيها بمثل ذلك. فقال: ما ظننت أن أحدا يوافقنى عليها ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافقة، فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس. فإذا رأى الرائى الشمس لم يحتج فى علمه بها واعتقاده أنها طالعة إلى من يشهد بذلك ويوافقه عليه.
وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبى شامة فى كتاب الحوادث والبدع:"حيث جاء به الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا" لأن الحق هو الذى كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأودى: "صحبت معاذا باليمن. فما فارقته حتى واريته فى التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سَيَلى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهى الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة. قال قلت: يا أصحاب محمد ما أدرى ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرنى بالجماعة وتحضنى عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهى