فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحى السليم.
وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذى همه كله فى الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها:
{يَا أَيَّتُهَا النّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً} [الفجر: ٢٧-٢٨] .
فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدى إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا، فيأتى بها توددا وتحببا وتقربا، كما يأتى المحب المتيم فى محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله. فكلما عرض له أمر من ربه أو نهى أحس من قلبه ناطقا ينطق: "لبَّيْك وسعديك، إنى سامع مطيع ممتثل، ولك على المنَّة فى ذلك، والحمد فيه عائد إليك".
وإذا أصابه قَدرَ وجد من قلبه ناطقا يقول: "أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربى العزيز الرحيم، لا صبر لى إن لم تصبرنى، ولا قوة لى إن لم تحملنى وتقونى، لا ملجأ لى منك إلا إليك ولا مستعان لى إلا بك، ولا انصراف لى عن بابك، ولا مذهب لى عنك".
فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة أهدِيَتْ إلى، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شرا صرف عنى:
وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لِى فى انْصِرَافِهِ
وَمَا زِلْتَ بى مِنِّى أَبَرَّ وَأَرْحَمَا
فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل:
ما مَسّنِى قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًى ... إلا اهْتَدَيْتُ بِهِ إلِيْكَ طَرِيقًا
أَمْضِ القَضَاءَ عَلَى الرِّضَى به ... مِنِّى بِهِإنِّى وجَدْتُكَ فى البَلاءِ رَفِيقا
فللَّه هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز
والذخائر، ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر.
سَيَبْدُو لهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ ... وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السرَائرُ