العباسية: كانت أيام المقتفي نضرة بالعدل، زاهرة بفعل الخيرات، وكان على قدم العبادة قبل إفضاء الأمر إليه، وكان أول أمره متشاغلًا بالدين ونسخ العلوم وقراءة القرآن، ولم ير -مع سماحته ولين جانبه ورأفته بعد المعتصم- خليفة في شهامته وصرامته وشجاعته مع ما خص به من زهده وورعه وعبادته، ولم تزل جيوشه منصورة حيث يممت.
وقال ابن الجوزي: في أيام المقتفي عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء، ولم يبقَ له منازع قبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلبين من الملوك وليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة ومن سلاطين دولته السلطان سنجر صاحب خراسان، والسلطان نور الدين محمود صاحب الشام، وكان جوادًا، كريمًا، مُحِبًّا للحديث وسماعه، معتنيًا بالعلم مكرمًا لأهله.
قال ابن السمعاني: حدثنا أبو منصور الجواليقي، حدثنا المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، حدثنا أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب حدثنا أبو محمد الصيرفيني، حدثنا المخلص، حدثنا إسماعيل الوراق، حدثنا حفص بن عمرو الربالي، حدثنا أبو سحيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزداد الأمراء إلا شدة، ولا الناس إلا شحًّا ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس".
ولما أعاد المقتفي الإمام أبو منصور الجواليقي النحوي ليجعله إمامًا يصلي به دخل عليه، فما زاد على أن قال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله -وكان ابن التلميذ النصراني الطبيب قائمًا- فقال: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي، وقال: يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية وروى الحديث، ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانيًّا أو يهوديًّا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه لما لزمته كفارة، لأن الله ختم على قلوبهم ولن يفك ختم الله إلا الإيمان، فقال المقتفي: صدقت وأحسنت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع غزارة أدبه.
وممن مات في أيام المقتفي من الأعلام: ابن الأبرش النحوي، ويونس بن مغيث، وجمال الإسلام بن المسلم الشافعي، وأبو القاسم الأصفهاني صاحب الترغيب وابن برجان، والمازري المالكي صاحب كتاب المعلم بفوائد مسلم، والزمخشري والرشاطي صاحب الأنساب والجواليقي -وهو إمامه- وابن عطية صاحب التفسير، وأبو السعادات بن الشجري، والإمام أبو بكر بن العربي، وناصح الدين الأرجاني الشاعر، والقاضي عياض، والحافظ أبو الوليد بن الدباغ، وأبو الأسعد هبة الرحمن القشيري، وابن علام الفرس المقرئ، والرفاء الشاعر، والشهرستاني صاحب الملل والنحل، والقيسراني الشاعر، ومحمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وأبو الفضل بن ناصر الحافظ، وأبو الكرم الشهرزوري المقرئ، والوأواء الشاعر، وابن الجلاء إمام الشافعية. وخلائق آخرون.