رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وأمه أم ولد تركية اسمها زمرد، بويع له عند موت أبيه في مستهل ذي القعدة سنة خمس وسبعين، وأجاز له جماعة: منهم أبو الحسين عبد الحق اليوسفي، وأبو الحسن علي بن عساكر البطايحي، وشهده، وأجاز هو لجماعة فكانوا يحدثون عنه في حياته، ويتنافسون في ذلك رغبة في الفخر لا في الإسناد.
وقال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد أطول مدة منه، فإنه أقام فيها سبعة وأربعين سنة ولم تزل مدة حياته في عز وجلالة وقمع الأعداء واستظهار على الملوك، ولم يجد ضيمًا، ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه، ولا مخالف إلا دفعه، وكل من أضمر له سوءًا رماه الله بالخذلان، وكان -مع سعادة جده- شديد الاهتمام بمصالح الملك، لا يخفى عليه شيء من أحوال رعيته كبارهم وصغارهم، وأصحاب أخباره في أقطار البلاد يوصلون إليه أحوال الملوك الظاهرة والباطنة، وكانت له حيل لطيفة ومكائد غامضة وخدع لا يفطن لها أحد، يوقع الصداقة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون، ولما دخل رسول صاحب مازندران بغداد كانت تأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل، فصار يبالغ في التكتم والورقة تأتيه بذلك، فاختلى ليلة بامرأة دخلت من باب السر فصبحته الورقة بذلك، وفيها: كان عليكم دواج فيه صورة الفيلة، فتحير وخرج من بغداد وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب؛ لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في بطن الحامل وما وراء الجدار، وأتى رسول خوارزم شاه برسالة مخيفة، وكتاب مختوم، فقيل له: ارجع فقد عرفنا ما جئت به، فرجع وهو يظن أنهم يعلمون الغيب.
قال الذهبي: قيل: إن الناصر كان مخدومًا من الجن.
ولما ظهر خوارزم شاه بخراسان وما وراء النهر، وتجبر وطغى، واستعبد الملوك الكبار، وأباد أمَمًا كثيرة، وقطع خطبة بني العباس من بلاده، وقصد بغداد، فوصل إلى همذان، فوقع عليهم ثلج عظيم عشرين يومًا، فغطاهم في غير أوانه، فقال له بعض خواصه: إن ذلك غضب من الله حيث قصدت بيت الخلافة.
وبلغه أن أمم الترك قد تألبوا عليه، وطمعوا في البلاد لبعده عنها، فكان ذلك سبب رجوعه، وكفى الناصر شره بلا قتال.
وكان الناصر إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع، وله مواطن يعطى فيها عطاء من لا يخاف الفقر.
ووصل إليه رجل معه ببغاء تقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} تحفة للخليفة من الهند، فأصبحت ميتة، وأصبح حيران، فجاءه فراش يطلب منه الببغاء، فبكى وقال: الليلة ماتت، فقال: قد عرفنا، هاتها ميتة، وقال: كم كان ظنك أن يعطيك الخليفة؟ قال: خمسمائة دينار، قال: هذه خمسمائة دينار، خذها، فقد أرسلها إليك الخليفة فإنه أعلم بحالك منذ خرجت من الهند.
وكان صدرجهان قد صار إلى بغداد، ومعه جماعة من الفقهاء، وواحد منهم لما خرج من